التقيته للمرة الأولى في مطالع التسعينيات الميلادية، لا أتذكر متى كان هذا اللقاء بالتحديد، وأين كان؟ جُلّ ما تجود به ذاكرتي وترسمه الآن هو أنه رجل هـادئ الملامح والطباع حتى تكاد تظنه لا مرئيا، لا يتحدث كثيرا إذا ما حضر، وابتسامته أو ضحكته تضعك مباشرة أمام براءة الـطفولـة، وقد شعت في جميع الأرجاء، لكنّ خلف هدوئه طاقة لا تهدأ ونشاطا لا يتوقف في العمل الصحفي المتميز والكتابة الإبداعية المتألـقة، أنه الـصديق جعفر عمران بو حليقة. هو شخص يجبرك علـى حبه، إذ سرعان ما تنفتح لـه أبواب قلبك وتقول في سريرتك: هذا هو الصديق الذي ينبغي الإمساك به وعدم إفلات يديه مهما قست الظروف وتباعدت الخطوات.
ابن بلدة «الـقارة» الـذي شب عن الطوق في دروبها الـضيقة، وتعلـم من شموخ جبلها كيف يتغلب علـى قساوة الحياة؟ عرف مبكرا أن الـذات لا يمكن أن تتجاوز انكساراتها إلا بالانفتاح على نهر الحياة المتدفق والإصغاء إلـى صخبه الـثاوي في الأعماق ، ولا تحقق إرادتها إلا بخوض غمار الكتابة الإبداعية التي كانت هي الرهان، وهي الحافز الـذي كنا لأجله نجتمع ونتحاور لساعات طوال، يدفعنا شغف لا يهدأ أواره، ولا تنطفئ جذوته.
وكان مقهى «الـرصيف» الـذي يقع في المنتصف من الجهة الشرقية لشارع الثريات بالهفوف هو ملاذنا وهو مع بقية الأصدقاء المضمار الذي نترك في رحابه أحصنة أفكارنا تنطلق بلا رقيب أو حسيب، تاركين رياح الحرية تقتلعنا من الجذور إلـى الفضاء الأرحب، لكن لقاءاتنا توثقت أكثر حينما كنا نلتقي في أنشطة جمعية الثقافة والـفنون أيام الـعزيز المرحوم عبدالـرحمن المريخي، وأتذكر أن أول نشاط لي في الجمعية أداره جعفر بمعية الـصديق الـناقد عبدالله السفر حول قصص الصديق ناصر الجاسم، ثم كرّت سبحة الأنشطة والحوارات تحت سور الجمعية الذي أتيح لنا من خلالها الالتقاء بأغلب مبدعي المملكة ومثقفيها. مثل هـذا الحراك أوجد ذاكرة ثقافية واجتماعية مشتركة امتدّت سنين طويلـة بين الأصدقاء الـذين يرتادون هـذه الأنشطة بالخصوص منهم: إبراهيم الحسين، إبراهيم الحساوي، عبدالله السفر، أحمد الملا، عبدالرحمن الحمد، صالـح بو حنية بالإضافة إلـى جعفر عمران .. ولا تعمل هـذه الـذكريات عند هؤلاء كل في مجالـه، إلا علـى الاندفاع في الـعمل الـثقافي، وأحسب أن أبا علي جعفر عمران منذ البدايات بجانب كتابته للشعر والقصة وكتابة الأفلام الوثائقية والسيناريو كان شغفه الآخر هو الإعلام الـذي أصبح علما من أعلامه، وقد عمل محرراً صحفياً في عدد من الـصحف كاليوم، وكان نشاطه يمتد إلى عمل ورش تدريبية للصحفيين حتى أنه أصدر عام 2018 كتاب «أنا إعلامي» وضع فيه خبرته الإعلامية للمهتمين، وكان سبقه كتاب «ذاكرة المكان» عام 2013 وهي قصص صحافية ترتبط بالبعد المكاني .
ورغم أن الصحافة كانت تحتاج إلى مجهود كبير، وهي عادة ما تكون مقبرة المبدعين كما يشتكي أكثرهم، بيد أن جعفر لم تفارقه الحالة الإبداعية في الكتابة، وهو يرجعها حينما سألته إلى أنه كان يتمرن على كتابة اليوميات منذ أن وعى أهميتها في مسيرة الـكاتب، لـذلـك حين أصدر مجموعته القصصية الأولى «سالفة طويهر» كان يتجلى فيها ليس باعتباره صحفيا وإنما بوصفه العين الساردة التي اختزلت الكثير من مشاهداتها اليومية ثم حولتها إلى عمل إبداعي بحت. في عام 2023 أصدر مجموعة قصصية أخرى بعنوان «الـيأس يشرب 7isb» يبان من خلالـها شخصية جعفر الـسردية ذات الـعمق الـشاعري الـذي عرفته عن قرب بوصفه الذاهب إلى ذاته وكأنه ذاهب إلى صومعة أو معبد.