ظلوا ينشدون الجمال، فالغزلان والوعول ستتكاثر وتنمو مثل شجر الغابات الكثيفة، وإذا ما توقف قطار كلماتهم عند آخر محطة له؛ فإنهم سيطلقون الزمن من قبضتهم حتى يعودَ إلى سجنه ثانية .
لكنّ المفاجأة التي تنتظره: هي أن الغزلان والوعول قد سبقته إلى هناك، وحولت سجنه إلى أحلام وأنهار وحدائق وغابات.
ثم أعطته بطاقة العبور – عبر بوابة الشعر- ، هناك حيث الزمن مقيد بحبال الكلمات، هناك حيث القصيدة ملاك ضائع في الكون بينما الألسنة بوصلة تعود به إلى جهة السماء.
عوالم شعرية مختلفة، القصائد فيها تؤول إلى تجارب حياتية متقاربة الأعمار. لكن القصيدة في كل تجربة عند هؤلاء الشعراء الثلاثة سؤال دائم عن معنى الشعر عن جوهره، عن تجلياته وآثاره , حتى يكاد ينزل منزلة المقدس في رؤاهم الشعرية. حيث الشعر موضوعة دائمة الحضور, وهاجس لا ينفك يحتل موقعا لا بأس به من مساحة الدواوين الثلاثة، لكنّ طريقة المقاربة والتناول تختلف من شاعر إلى آخر.
فقصيدة الشاعر ناجي حرابة هي الأكثر وضوحا في هذا الذهاب إلى هذا الهاجس بدءا من العنوان «من رآه الأعمى» إلى آخر نص فيه، إذ نحن نعلم تماما من هو المقصود بالأعمى ومن هو المقصود بالضمير الغائب في كلمة «رآه» وذلك قبل أن نتصفح قصائد الديوان بينما قصيدة الشاعر حسن الربيح لا تقترح ذلك، خيارها يختلف تماما، إنها ترى إلى الشعر حضورا متنوعا عبر استحضار مضامين مستلة من مقاربات حياتية متنوعة: كالطفولة، وتأمل الطبيعة، وأجواء العشق، واستدعاء الشخوص والأحداث والمدن والتاريخ . وهذا يعني فيما يعنيه انسياق تام للكتابة في لحظتها الانفعالية بالحياة.
أما قصيدة أمير المحمد صالح فإنها تشفُّ، ومن فرط شفافيتها يختبئ سؤال الشعر خلف النبرة الوجودية للغناء، فلا يكاد يبين. بيد أن فكرة التوحد بالطبيعة المسيطرة على أجواء قصيدته تتيح للأنا الساردة أن تصبح نبوءة تارة , وتارة أخرى ينبوعا أو نورا سماويا وكأن النقاء والطهر والحب الأفلاطوني هو الأفق التي تنطلق منه القصيدة ومن ثم إليه تعود، وبالتالي بإمكان الرؤية إلى الشعر تحتل مكانة الأنا الساردة دون أن يحدث تغير في بنية القصيدة، لأن موضع كلاهما واحد في البناء المجازي للقصيدة .
الاختلاف والتباين بين التجارب الشعرية طبيعة لازمة ,تفرضها حياة الفرد المبدع في علاقاته الاجتماعية والثقافية والتاريخية، وتفرضها أيضا تطلعاته ورؤاه وثقافته وطريقة حضوره في العالم، لذلك حين نقترب من قصيدة ناجي حرابة بوصفنا قراءً ينتابنا إحساس أن الشعر يسرد تاريخه عبر التماهي مع تاريخ المتنبي ,بينما صوت الشاعر يصف ويراقب ليكتشف سر هذا التماهي، وفي أحيان أخرى يتورط هذا الصوت في التعبير عن نفسه بالحب أو بالكره، حب المتنبي أو كره أعدائه، وفي كلتا الحالتين يتحول هذا التورط إلى رؤية متماسكة للشعر تحكم المجموعة من أول قصيدة إلى آخرها.
وبخلاف ذلك، يأتي صوت الشاعر حسن الربيح لا ليقول بالرؤية المتماسكة، وإنما ليقول: أن الشعر تأمل في الحقيقة، وهذه الحقيقة لا توجد سوى في عمق الأشياء التي تتجسد أمام الشاعر في حياته من قبيل: الموت والحرب والحياة والألوان ومساءلة القيم والأخلاق عبر استحضار أصوات من التاريخ والمجتمع.
مثل هذا الخيار في الذهاب إلى أبواب القصيدة لم تلزم قصيدة الشاعر أمير، فقد ظلت نبرة صوته على مستوى واحد من الإيقاع، وكأنه يدفعنا كقراء دفعا؛ كي يذكرنا أن القصيدة ليست سوى صدى موسيقى الكون والعالم.
@MohammedAlHerz3