وأما اليوم فإنه من المزعج جدا العدد الهائل من المقاطع المرئية التي نشاهدها حتى أصبحت «غثيثة على النفس»، والأسوأ من ذلك كله كثرة النصائح والمقترحات والتوجيهات في مختلف المجالات من غير المختصين! فهذا يقول لك: من علامات نقص الحديد أو الفيتامينات أو السكر كذا وكذا، وآخر يزعم أن من علامات الاكتئاب كيت وكيت، وآخرون يعطونك نصائح طبية كثيرة وعلاجات متنوعة كأن الطب أصبح محل تجارب وآراء شخصية! ومنهم أيضا من يأتيك بالنصائح الدينية عن غير علم، بل البعض يستشهد بأحاديث لم يتعب نفسه في التأكد من صحتها، مع أن المسألة هذه الأيام صارت سهلة المنال.
وأنا شخصيا بمجرد أن أسمع أو أقرأ حديث «يزعم صاحبه أنه حديث نبوي» ويكون طويلا جدا، وفيه تفاصيل دقيقة، ولغته ليست رصينة، ويخلو من البلاغة والحكمة، أبدأ مباشرة في الشك في صحته! لأنه ببساطة الرسول - عليه الصلاة والسلام - أوتي الجوامع من الكلام أي قلة ألفاظه وكثرة معانيه وبلاغته، ففي الحديث النبوي الصحيح: «وأُوتِيتُ جَوَامِعَ الكَلِمِ».
ومن كثرة ما يتحدث هؤلاء في كل علم وفن صرت من النادر أن اتباع أحدا حتى نهاية مقطع الفيديو فضلا عن أن أصدق المحتوى. وأصبحت أعتقد في المجمل أن الأغلب يبحث عن الترند أو الإثارة، والأصل التأكد من أي معلومة تُذكر.
وهناك فئة تتحدث عن أشياء خاصة جدا، وبعضها أحداث وقصص أسرية حزينة ومؤلمة، ولست أعرف ما الحكمة أو العبرة من سردها على الملأ! حيث أنه يمكن للإنسان أن يتحدث في هذه الأمور والمسائل للأشخاص المقربين لا البعيدين، ولكن يبدو أنه أصبح المتابعون أهم من الأصدقاء والأصحاب! وتلك معضلة حقيقة إذا كنا لا نستطيع أن نعبر عن الآلام والأحزان إلا من خلف الشاشات!
وعودا على ما أسلفنا، فكثرة المرئيات والكلام والمنقولات تؤدي إلى فقد التركيز، وتبعث على الملل والسآمة، وقد نُقل عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه قال: إذا وعظت فأوجز، فإن كثرة الكلام ينسي بعضه بعضا!
ويدل ويؤكد على هذه الفكرة والمعنى حديث أبي وائل شقيق بن سلمة قال: كان ابن مسعود يذكِّرنا في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، فقال: «أمَا إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُمِلَّكم، وإني أتخولكم بالموعظة، كما كان رسول الله ﷺ يتخولنا بها مخافة السآمة علينا».
الأمر الآخر الذي ينبغي أن ننتبه إليه، أن المسألة ليست بكثرة العلم أو كثرة الكلام، لأننا في زمن صارت المعرفة والمعلومات على بُعد ضغط زر بواسطة الهواتف الذكية، ولكن الأثر الذي ينطبع على السلوك والعمل هو الغاية. ويوضح ذلك قصة الرجل الذي أكثر من الأسئلة على أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، حيث أخرج الخطيب البغدادي عن عطاء أنه قال: «كان فتى يختلف إلى أم المؤمنين عائشة فيسألها وتحدثه فجاءها ذات يوم يسألها فقالت: يا بني هل عملت بعدما سمعت مني؟ فقال: لا والله يا أمَّه، فقالت: يا بني فبما تستكثر من حجج الله علينا وعليك».
والواقع أنه من كثر كلامه كثر خطؤه، وربما قلّ عمله!
@abdullaghannam