وبين فضيلته خلال الخطبة والتي كانت بعنوان بشائر الإيمان، أنَّ أعظمَ النِّعمِ على العباد هي إفرادِ اللهِ تعالى بالعبوديةِ، مؤكداً على أن التَّوحيدُ هو أساسُ الدِّينِ وَقَوامُهُ، وذِروةُ قمّتِهِ وسَنامُهْ، وهو وصيةُ اللهِ لأنبيائِهِ ورسلِهِ عليهِم الصلاةُ والسلامُ، حيث وصَّى بذلكَ نوحًا وإبراهيمَ وعيسى وموسى ومحمداً خاتمَ النبيِّين عليهم أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليمِ، مستدلاً في ذلك بما جاء في مُحكمِ التنزيلِ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}.
كما أوضح فضيلته أن ما مِنْ رسولٍ بُعِث في أمةٍ إلا وقد صدَّر دعوتَه بهذا الأصلِ العظيمِ؛ مستشهداً بذلك بقوله تبارك وتعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، مبيناً أيضاً إنَّ أوَّلَ نداءٍ للناسِ في القرآنِ الكريمِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وإنَّ أوَّلَ نَهي لهم في الكتابِ المبين: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
بشارات الموحدين
وتناول فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام أنواع الشركَ مبيناً أنها نوعان: شركٌ أكبر، لا يغفرُهُاللهُ عز وجل، وهو عبادةُ غير الله بأي نوعٍ مِنْ أنواعِ العبادةِ؛ مِنْ دعاءٍ وذبحٍ ونذرٍ وسجودٍ وخضوعٍ وغيرِ ذلك مما لا يُصرفُ إلا لله، وشركٌ أصغر وهو ما أتى في النصوصِ أنَّهُ شركٌ، ولم يصلْ إلى حَدِّ الشركِ الأكبر، كالرياءِ، والحلفِ بغيرِ الله.واستعرض فضيلته خلال الخطبة بعضاً من البشارات الواردة للمؤمنين الموحدين التي يزخر بها القرآن الكريم والسنة النبوية والتي من ضمنها قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} وكذلك قوله عزّوجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
وأشار إلى أن هذه البشارات التي تُنسي الناس ما فاتَهُم مِنَ الملذاتِ، وتَعِدهُم بالنعيمِ المُقيمِ الذي يستحقُّ أنْ تتعلقَ بهِ الرغباتُ، وتُبشرُهم أيضاً بادخارِ أعمالِهِم الصالحةِ عندَ ربِّ العالمين، وبأنهم موعودون يومَ القيامةِ بشفاعةِ الرسولِ الأمين، مستدلاً بقول الحق تبارك وتعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، كما تُبشرُهم بالجنةِ عند انقاطعِهم مِنَ الدنيا وإقبالِهم على الآخرةِ بالجنةِ، وذلك لقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّاسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوابِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ «30» نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَاوَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}.
وتُبشرُهم أيضاً بالمغفرةِ والأجرِ الحسنِ الكريمِ، وذلك لقول العزيزُ العليمُ: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍوَأَجْرٍ كَرِيمٍ}، وقالَ تعالى: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا «2» مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا}، وكذلك تُبشرُهم بالنَّعيمِ المقيمِ في الجِنانِ، وبالرحمةِ والرضوان، مِنَ اللهِ الرحيمِ الرحمن: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍوَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ}.
وقال فضيلة إمام وخطيب الحرم: وكما أنَّ البشارةَ تكررتْ في القرآنِ العظيمِ، فقدْ جاءتْ على لسانِ نبينا الكريمِ، عليه أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليمِ، ففي الصحيحين مِنْ حديثِ أبي ذرٍّ رضيَ اللهُ عنه، أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِالسَّلاَمُ عَرَضَ للنبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فِي جَانِبِ الحَرَّةِ، فقَالَ له: «بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ».
صفاتِ أهل الإيمان
وخلال الخطبة الثانية أكد فضيلته على إنَّ للإيمانِ لوازمَ ثابتةً لا تُفارقُه، وإنَّ للقلبِ أحوالاً وأعمالاً تُصاحبُ الإيمانَ وتُرافِقُه، بها يتميزُ المؤمنُ وتتجلَّى فيهِ بلا قصدٍ منهُ ولا استدعاءٍ، وإذا ضعُفتْ أو غابتْ؛ كان ذلكَ أمارةً على نقصِ الإيمان بوضوحٍ وجلاء.واستشهد في ذلك ببعض الأيات في القرآن الكريم حيث يقولُ اللهُ تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ «2» الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ «3» أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}، مبيناً أن الله سبحانه وتعالى أثبتَ الإيمان الحقَّ لمنِ اتصفُوا بهذه الصفاتِ، ووعدهُم بالمغفرةِ والرزقِ الكريمِ وأعلى الدرجاتِ.
واستعرض إمام وخطيب الحرم المكي خلال الخطبة أهمِّ صفاتِ أهلِ الإيمان الواردةِ في كتابِ الله وذلك من خلال قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، مشيراً إلى أن الأخوةُ الدينيةُ تستلزمُ التمسكَ بالكتابِ والسنةِ، والتعاونَ على البرِّ والتقوى، وائتلافَ القلوبِ، واجتماعَ الكلمةِ، ووحدةَالصفِّ، ونبذَ التفرقِ والتمزقِ والخلافِ، وسد كل الذرائع المؤدية إلى التطرف والغلو بكافة صوره وأشكاله.
ولفت فضيلته إلى التوجيه الربانيُّ الكريمُ في ذلك بقول الحق تبارك وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَقُلُوبِكُمْ}، مؤكداً أن ذلكُم منْ أعظمِ مُحكماتِ الشريعةِ، وأجلِّ مقاصدِهَا وغاياتِهَا، فبذلكَ يسودُ الأمنُ والاستقرارُ، وتقامُ الشعائرُ، وتزدهرُ الحياةُ، وينتشرُ العلمُ والمعرفةُ، ويشيعُ التسامحُ والسلامُ.
ودعا إلى إخلاص العبادة لله وحدَهُ، والتمسك بكتابه الكريم وسُنَّةِ رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم على فهمِ السلفِ الصالحِ، حاثهم على التعاون على البر والتقوى، وأن يقولوا للناس حسناً، وأن يكونوا خيرَ دعاةٍ للدين بأقوالهم وأفعالهم، وأن يتعايشوا بتسامح وسلام وأمانٍ، حتى ينالوا القَبولَ والرضوان، ويفوزوا برضَا الرحمن ودخولِ الجنان.
وشدد إمام الحرم على أن الإسلام جاءَ ليُقيمَ أركانَ المجتمعِ على الفضائلِ الإسلاميةِ الإنسانيةِ، ومكارمِ الأخلاقِ والصفاتِ النبيلةِ، ليكون مجتمعاً تملؤه المحبةُ والمودةُ، والخيرُ والإحسانُ، والأمنُ والأمانُ، ومحققاً عالمية الإسلامِ، برسالتهِ التي تتجِهُ بمبادئِهَا السمحةِ وتعاليمِهَا المعتدلةِ للناسِ كافة، وتُرسي دعائمَ السلامِ في الأرض، وتدعو إلى التعايشِ السلميِّ بين البشرِ جميعاً في جوٍّ منَ التسامحِ بين كلِّ الناسِ باختلافِ أجناسِهِم وألوانِهِم ومعتقداتِهِم وأديانِهِم.
مختتما خطبته بالدعاء بأن يحفظ الله المملكة وقادتها وأن يوفقهم لكل مافيه خير الإسلام والمسلمين، ولنشر رسالة الإسلام السمحة والوسطية والاعتدال والتسامح والتعايش السلمي بين الشعوب، وأن يديم الأمن والأمان والاستقرار على المملكة وجمهورية جنوب أفريقيا وسائر بلاد المسلمين.