الكتاب مبني في تحليله ومتابعته للسيرة على حس روائي وقصصي يشدك من أول فصل إلى آخر فصل، ورغم أن الكتاب يتجاوز ٤٥٠ صفحة إلا أنه ممتع، فأفكار إدوارد سعيد المعروفة في الاستشراق، والتي ناقشها الكثير من المفكرين إلا أن ميزة الكتاب يقدم أفكاره وهي وثيقة الصلة بتطور حياته الاجتماعية والأسرية والمكانية وحتى المادية. مثل هذه النظرة والتصور في معالجة سير وأفكار المفكرين، رغم قرائاتي المكثفة حول العديد من الذين تناولوا فكر إدوارد سعيد بالنقد والتحليل، ولا أريد ذكر أسماء، لقد ذكرت هذا الكتاب هنا لأني في نفس الوقت وبالمصادفة كنت أقرأ أيضا كتاب أمين معلوف «متاهة الضائعين- الغرب وخصومه» الصادر عن دار الفارابي ٢٠٢٤م مترجما عن الفرنسية.
وأقول بالمصادفة لأني وجدت الحس الروائي السردي في تحليل الأحداث والوقائع والوثائق هو الجانب المشترك في كلا الكتابين، رغم التباعد بين الاثنين في الموضوع والتناول. لم أتقاعس يوما ما عن قراءة جميع أعماله الروائية والتاريخية ما عدا مسرحياته الشعرية، منذ ليون الأفريقي والحروب الصليبية كما رآها العرب مرورا بصخرة طانيوس وأيضا البدايات كسيرة ذاتية له، الهاجس الذي شغل تفكيره في هذا الكتاب هو امتداد للهواجس التي شغلته في الأعمال السابقة والتي ربطها بالسياق ذاته، بالخصوص كتاب «اختلال العالم» ثم كتاب «غرق الحضارات» وقد قدمت عنهما قراءة مفصلة هنا على صفحات الرأي.
يضع أمين معلوف نفسه ككاتب وروائي موضع المطل من علو شاهق، وأفق شاسع يرى فيه مشاكل العالم الذي نعيش فيه، لا تكف فيه هواجسه عن مساءلة مكمن الاختلال الذي أصاب العالم، وعن القيم الحضارية التي كادت أن تغرق، وهنا يفتتح كتابه عن تساؤل مستعاد منذ خروج أوروبا من حربين عالميتين: «أيكون انحطاط الغرب حقا هو الذي يتبدى أمام أعيننا اليوم ؟
وهو يجيب «نعم إن الانحطاط فعلي ويتخذ له في بعض الأحيان ملامح الإفلاس السياسي والإخفاق الأخلاقي، غير أن كل الذين يقاتلون الغرب وينكرون عليه تفوقه لأسباب صائبة أو خاطئة يعرفون هم أيضا إخفاقا يفوق إخفاقه خطورة».
وهو يصل من خلال كتابه ومقارباته التاريخية إلى قناعة بأن البشرية لا تملك القدرة ولا الحق أيضا في قيادة العالم، فلا الغرب من خلال تجربة الإمبراطورية العظمى بريطانيا ثم أمريكا ولا خصومه من الصينيين واليابانيين والروس قادرين على خلق نظام مستقر وعادل. لذلك، يسمى هذه اللحظة من حياة البشرية متاهة الضائعين الذين لم يخرجوا عن دائرة مشاكلهم وحروبهم وعجزهم.
يضعك أمين معلوف مباشرة أمام تجارب التاريخ والأمم والشعوب مستخلصا تلك التجارب في سيرة أشخاص مؤثرين وكأنك تتحدث معهم مباشرة، وكأن السنين التي تفصلك عنهم تذوب وتتلاشى بمجرد ما تقرأ سرده في تناول الأحداث.
ظلت الصين على سبيل المثال تنظر لليابان على أنها قدوة ينبغي الاقتداء بها والتصالح معها.
@MohammedAlHerz3