وما يزيد من صعوبة المسألة أن أصغر موظف شاب سوف يغرق في تساؤل مُباح ومشروع، يحدّث به نفسه ويتعجّب بعقل حائر ويقول: «ما الذي يدفع هذا الشخص وهو في هذا الموقع وهذه المرتبة الوظيفية المتقدمة، أن ينسى كل هذه الامتيازات ويتفرّغ لتعيين جواسيس، وعيون، وآذان، وأتباع؟ بل ويستثمر أغلب وقته في نشر الإشاعات والأكاذيب وتمريرها للإدارة العليا؟
«وإذ قُلنا إنه سؤال مُباح، تأتي المهمة الأصعب بإيجاد جواب للسؤال العريض المبتدئ بـ «لماذا؟»؛ لماذا يفعل هؤلاء ما يفعلون من سعي متواصل للإضرار بغيرهم من أصحاب الكفاءات؟ وتعميق الخلافات في بيئة العمل؟ ويستمرون في ضرب أسوأ الأمثلة للمواهب الغضة من أبنائنا وبناتنا الملتحقين حديثا بالمسارات الوظيفية؟ ويُمعنون في توسيع دوائر الحزبيّة؟
فإليك ما يلي: - كن على يقين أن هؤلاء لم يتواجدوا في بيئة عملك عبثا، بل إنهم جاؤوا في فترة كانت خلالها بيئة العمل تحت وطأة مرحلة أشبه ما تكون بفترات «الفراغ الدستوري» في عُمر الدول غير المستقرة، فهناك إدارة رحلت.. وإدارة حلّت. - بحلول الإدارة الجديدة، تشرّع الفرصة أبوابها، ويتسلل أمثال هؤلاء الوصوليين إلى بيئة عمل تحاول جمع شتاتها في المقام الأول، وبدهاء المخرّبين.. يبدأ الواحد منهم في التخطيط لمرحلة الانطلاق عبر تحديد نقطة الاختراق. - ينحى هؤلاء لتبنّي نهج تحشيد الموالين والجواسيس في بيئة عملهم الجديدة لأنهم جاؤوا كبدلاء، وأقصر الطرق لترسيخ التواجد في مكان جديد هو تجميع أكبر عدد ممكن من الأتباع المستعدين للتنازل عن أبسط المبادئ لصالح المكاسب الشخصية الرخيصة.
ويستمر هؤلاء بالانغماس في الوشاية وزرع الفتن ونقل الأكاذيب للإدارة العليا لأنهم يعملون بخطط عمل قصيرة الأجل، لا تتجاوز في أفضل الظروف حفنة من الأعوام المحدودة، وذلك لأنهم يدركون أن هناك من سيزيحهم، ويأتي بدلا عنهم، وتنطوي صفحة شرورهم فعلاً، ولا يبقى منها سوى داكن الذكريات. المؤلم خلال هذه السنوات القليلة أثناء تواجد الوشاة والكاذبين هو مراقبة المشاهد المقززة للإضرار بأكفأ الموظفين وأكثرهم تميّزا وأعلاهم إنتاجية؛ وحتما ستكون هناك خسائر فادحة للمؤسسة بسبب اضطرار عدد كبير من الكفاءات لمغادرة هذه البيئة المسمومة، وهي أحوج ما تكون لهم!
ولتوضيح فداحة التأثير، نطالع في دراسة أمريكية مفزعة أن 20% على الأقل من القوى العاملة ذات التميّز والمهارة تضطر سنويا للاستقالة بسبب بيئات العمل المسمومة؛ وقد تكبّد الاقتصاد الأمريكي خلال خمس سنوات فقط، بين الأعوام 2014 و 2019، خسائر تجاوزت 223 مليار دولار بسبب مغادرة أصحاب الخبرة والكفاءة بيئات العمل المسمومة، والتي يعبث فيها الجواسيس وزارعي الفتن أثناء وجودهم في مواقع قيادية.
وربما تبقى الحقيقة الأكثر إيلاما في مثل هذه التراجيديا الوظيفيّة، أن هناك عدد محدود من فئة الموظفين الشباب الذين قد ينتهجون مستقبلا دورا مماثلا عندما يحتلون مواقع قيادية ويشغلون مراتب متقدمة، ويتحولون -بمنتهى الأسف- إلى وشاة وزارعي فتن بسبب تأثرهم بما شاهدوه من تمكين الفاسدين وغض الطرف عن استبداد عشاق غرس الفتن وصناعة الأحزاب.
@abdullahsayel