وعلى أثر تبعات سياساتها، بريطانيا تعاني من استلاب أجنبي لوجهها الحقيقي، فكل شيء قابل للبيع والشراء هناك. وبعد أن تبنت تاتشر خطة الخصخصة للقطاعات العامة، صارت الدولة بيد المهاجرين القدماء، الذين أصبحوا مواطنين، والأثرياء الذين يستطيعون شراء كل شيء فيها، لم تعد الدولة متحكم إلا من خلال بعض القوانين، فهيمن القطاع الخاص بعد أن همش العام واتهم بأنه يحصل على غنائم لا يستحقها، أما القطاع الخاص المعول الوحيد للاقتصاد تحول لبيئة عمل غير صالحة اقتصادياً وصار أحد أسباب الأزمة الاقتصادية.
لا أتحدث هنا عن المهاجرين وحقوق المواطنة، فالولايات المتحدة الأمريكية أكبر موطن للاختلافات العرقية والانتماءات الوطنية والدينية، ولكن ليس بها هذا القدر من الفوضى الذي تعيشه بريطانيا اليوم، الفوضى جاءت بعد اتخاذ تاتشر خطة الاقتصاد الحر لبناء الدولة القوية، وحتى تخفف العبء عن كاهل الحكومة بعد خروج الدولة من حروب ودخولها في ركود، صارت تجتبي الأموال من المواطنين. لذا، طالب العاملون بتحسين أحوالهم وقاموا بمظاهرات وإضرابات، فاختارت تاتشر النهج السهل لإخلاء نفسها وحكومتها من مسئولية هذه الأوضاع، وإلقاءها على ظهر القطاع الخاص عبر تبني سياسة الخصخصة وبيع القطاعات العامة.
وترتب على السياسة التاتشرية وعبر الأجيال، وجود طبقية اجتماعية تتفاقم مع كل أزمة تمر بها البلاد، وسوء الخدمات المقدمة بالذات في القطاعات الأساسية كالتعليم والصحة والخدمة الاجتماعية، بل أدى ذلك الأمر إلى أن تكون جودة العمل الخدمي سيئة وغايته التكسب، وسادت موجة من الفساد والرشى والانحدار الأخلاقي، ولأن الخدمة المقدمة لا توفر خيارات جيدة بسبب انعدام التنافسية والاشراف والحوافز التي كانت في القطاع العام، هذا ما جعل العاملين فيها متحكمين بها ومسيطرين عليها، وبسبب خوف ملاك الشركات من الإضرابات والخسارة، انتشر الفساد، وهذا ما أدى لتدهور القطاع الخاص وانحسار دور القطاع العام، وخلق بيئة اجتماعية سيئة وبيئة استثمارية أسوء، واقتصاد مترنح، ومجتمع مفكك.
قرارات تاتشر السيدة الأولى آنذاك، كانت قرارات تريد منها الكمالية وتسوقها بنظرة محصورة على الواقع وليس استراتيجية ممتدة، أشبه بأم صارمة لديها افتراضية واحدة تقودها لتربية ابنها ليكون ناجح ولكن وفق نظرتها هي للنجاح، وحين كبر في ظل قراراتها لم يستطيع أن يعتمد على نفسه على الرغم من نجاحه الدراسي.
وللأسف ربت تاتشر أجيالا لا يزالون يتبنون نظرتها في السياسات التي أعاقت بناء الدولة بناء صحيا، حتى ارتفعت حالات المشردين- بلا مأوى - في لندن بنسبة 54% بين عامي 2013 و2023، بل ترتب على الوضع انعدام الاستقرار المالي الذي أدى إلى التفكك الأسري ومشاكل الصحة العقلية، والحياة العبثية والإدمان وغير ذلك نتج عنه مجتمع مفكك، واقتصاد يعتمد على الاستثمارات تهزه الأزمات وتتلاعب به القرارات، يريد النجاة من أزمته.
@hana_maki00