عيون هذا الزميل جاحظة منذ فترة ليست بالقصيرة، ويبدو عليه الهزال، وكأنه لم يتناول الطعام منذ أيام.. أو ربما عاش على الكفاف! وذاك الزميل الذي تعودت أن تراه في أحيان كثيرة مبتسما ومتقدا بالعطاء، يبدو اليوم بوجه غلبت عليه ملامح الشرود..! وفي ساعة أخرى من ساعات العمل الطويلة تلتقي بزميل آخر اعتلى العبوس تقاسيم وجهه، وبعد أسابيع من ظهور هذه التغييرات المؤسفة، يصل كل هؤلاء إلى مرحلة الحاجة للحديث لشخص يمكن الوثوق به في بيئة العمل.
إن كنت ممن يلعبون دور المنصت النزيه في بيئة العمل، فاعلم أن الناس لا تتفق عادة على أسباب استيائها من مكان العمل، لكن الأكيد أن هذا العدد الكبير من الموظفين، خصوصا متوسطي ومتقدمي الخبرة، لا يشتكي ويبوح بمخاوفه لزميل مؤتمن وموثوق إلا إذا تحولت بيئة العمل إلى مستنقع مليء بالسموم؛ وهذه السموم تنتشر بشكل متسارع وتشلّ شغف الموظفين، ويبدأ كابوس الإحباط، وتهوي الأمور وصولا بالموظف إلى بقائه حبيسا في دوامة المخاوف التي تحيل ساعات العمل إلى ما يشبه ساعات انتظار تنفيذ حكمٍ بالإعدام.
والقاسم المشترك عند استماعك إلى بوح هؤلاء الزملاء الذين يحظون بتقدير الجميع، تنتهي بك إلى تحليل مخاوفهم، وانقسامها إلى ٣ مراحل: المرحلة الأولى هي مرحلة الصدمة، تتلخص فيما يصل إليك من خلال فضفضة بعض الموظفين، مبدين إجماعاً على وجود «شلة» تتحكم في زمام الأمور، وتتشكل هذه الشلة استنادا لقربها من صاحب «النفوذ الأعلى» الذي يختصّهم بالحصانة والامتيازات وإبداء الرضا والثناء والتمجيد، بينما يكون نصيب الآخرين كل أنواع الجحود، والإجحاف وحتى الإساءة. المرحلة الثانية هي مرحلة الاختناق، وهي انعكاس فعلي لاستيطان القلق واستدامته، وتتسم أيضا باستدامة الاحتراق النفسي لدى هؤلاء الموظفين الذين فقدوا أي بصيص للأمل، ويعكس لك بوحهم في هذه المرحلة حجم المخاوف التي تطال بشكل سلبي صحة الموظف، وتترجم التداعي الحاد لحالته النفسية، وتصل نيران هذه المرحلة السوداوية إلى أسرة الموظف وبيته! ومعها تبدأ آفة القلق والتوتر الوظيفي بالسيطرة على يوميات هذا الموظف؛ حتى أكبر المستشفيات تعجز عن تشخيص ما فيه، وهل سبب مشاكله الصحية عضوي أم نفسي؟ المرحلة الثالثة هي مرحلة الإحباط المُعتم، وتبدأ ملامح الدخول في هذا النفق السرمدي بالظهور من خلال حديث الموظفين عن رغبة أصيلة، ولدى عدد لا يستهان به منهم، في مغادرة المكان والانطلاق نحو فرصة جديدة، فدرجة السُمّية في مكان عملهم الحالي أفقدتهم كل فرصة في تخليص يومياتهم من السموم المحيطة وبالتالي أفقدتهم اتزانهم الطبيعي؛ ومع استمرار انتشار السموم.. يصل الموظف إلى الإشفاق على ذاته وكرامته واعتزازه بكفائته وخبراته، ومن بين نتائج هذه المرحلة من التسمم أن يقدّم الموظف المغدور استقالته حتى وإن لم يجد وظيفة بديلة.
هذا باختصار هو واقع عشرات الموظفين الأكفاء ممن يعانون من الشللية المسيطرة على بيئة العمل ومجرياتها، ويعانون يومياً مرار الاضطرار لأداء مهامهم بمنتهى الكفاءة رغم أنهم على يقين أن الإنجاز سوف يقابل بالنكران والجحود ثم يُنسب النجاح لغيرهم؛ ومع يقين هذا الموظف الكفء أن الشلة المسيطرة لا تستحق جهوده النبيلة، تبدأ مرحلة النزيف الأدائي التي تسلب كل ذرة من الطاقة الإيجابية في كيان أفضل وأكفأ النماذج أداء وعطاء وإبداعا، وهذه المرحلة الشديدة العتمة.. سأخصص لها مساحة أحد مقالاتي القادمة.
@abdullahsayel