حيث كانت البداية عند أوغست كونت وإميل دوركهايم، عندما حاولا تطبيق المنهج التجريبي على الظواهر الاجتماعية ثم استمرت وانتشرت في أغلب فروع العلوم الإنسانية كالدراسات الانثروبولوجية على سبيل المثال التي ركزت على المجتمعات البدائية بوصفها مجتمعات لم تتطور عن مرحلتها الحيوانية، وعلى هذا الأساس تم النظر إليها ومراقبة سلوكها الفردي والجمعي مثلما يراقب العالم البيولوجي سلوك الحيوانات ومن ثم يصنفها.
لكن الثورة الصناعية والتقنية قفزت قفزات متلاحقة، وعلى إثر ذلك عرفت المجتمعات تطورا في جميع مجالات الحياة لم تعرف مثله من قبل، وأصبحت على دراسة الهندسة والفيزياء والرياضيات من أكثر التخصصات التي يُقبل عليها الطلبة في الجامعات لأنها توفر لهم مستقبلا مضمونا في سوق الإنتاج، وتعطي لهم مكانة مرموقة من خلال التخصص العلمي الذي يحملونه، حتى أنه برزت أسماء لامعة في سماء الفكر دعت إلى التخلي عن العلوم الإنسانية من أجل التوسع في مجال التخصصات العلمية بدواعي انتفاء الحاجة لها على مستوى الإنتاج الاقتصادي في أسواق العمل .
وإذا كان الجدل في الدوائر الفكرية والفلسفية الغربية لم يتوقف عن نقد العلم وتطوره التكنولوجي والتقني وآثاره السلبية على المجتمعات، يكفي النقد العميق الذي وجهه هيدغر للتقنية ومخاطرها، فإن ما لم يتصوره مثل هذا الجدل هو الفتوحات التي حققها العلم في مجال الذكاء الصناعي، وغير في الكثير من المفاهيم المرتبطة بالتعليم والصحة والعمل والإبداع وكأن المجتمعات دخلت في مرحلة عليها أن تعيد كل ما تعلمته واكتسبته من الحياة إلى الصفر.
أي أن التحدي الأكبر الذي تواجهه البشرية إزاء هذا التطور العلمي الخطير هو إلى أي مدى ستؤدي هذه المغامرة بالمجتمعات إلى التهلكة والإمحاء ، خصوصا وإن مثل هذا التطور في الذكاء الصناعي ليس له حدود حسبما يعتقد العلماء المتخصصون. وعليه إذا كان البعض يرى أنه يمكن الاستفادة القصوى من هذا التطور لأجل التحسن المعيشي والاقتصادي للمجتمعات، ولا خوف منه على الإطلاق، ويطالب بفسح المجال للتخصصات العلمية القائمة على مثل في الجامعات للطلبة، لأنه مطلب كبير لكبرى الشركات التي تقود اقتصادات العالم، فإن البعض الآخر يتخوف كثيرا من الآثار السلبية على الحياة الاجتماعية التي يمكن أن تسببهاالإمكانات الهائلة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي. لذلك، يقترحون أن تكون دراسة العلوم الإنسانية جزءا لا يتجزء للطلبة الذين يدرسون العلوم البحتة لأن الفصل بينهما يسبب كارثة في التفكيرالأخلاقي المدمر على المستوى الإنساني وليست حروب أوروبا في القرن العشرين سوى الدليل القوي على ذلك، والأمر الأكثر أهمية هو أن تاريخ العلوم الطبيعية وتاريخ العلوم الإنسانية لم ينفصلا منذ أن ظهرا على سطح التطور المعرفي.
بل إن الحاجة للعلوم الإنسانية والفلسفية ملحة أكثر من أي وقت آخر يوم كانت فيها الفلسفة تطرح آراءها بخصوص دراسة الظواهر الاجتماعية بوصفها ظواهر علمية قابلة للاختبار والتجريب، بينما في الوقت الراهن كما يلح هؤلاء هو أن ترتبط هذه التخصصات بالاجتهادات التي تقترحها العلوم الإنسانية في مجالات مهمة في حياة الإنسان كالأخلاق والإبداع والجمال والسلوك الإنساني والقيم والمبادئ، وهذه جميعها رغم أنها ليس لها مخرجات مباشرة في سوق العمل والإنتاج، إلا أنها من الضرورة بمكان للتخصصات العلمية، بحيث تكون بمثابة الرافعة التي تلبي الاحتياج البشري بين ما هو روحي وبين ما هو مادي في حياتهم.
@MohammedAlHerz3