ومن هنا، فصناعة المعرفة وإنتاجها تقوم على إعمال المهارات العقلية بمختلف مستوياتها للتنقيب في أعماق المعرفة وسبر أغوارها، إلا أنه مما يلاحظ دفع الطلاب والطالبات نحو استهلاك المعرفة في رحلة قصيرة الأجل تبدأ بالتلقين ثم الإيداع وتنتهي بالإلقاء في سلة المهملات المعرفية، ليجني المجتمع قوالب بشرية متشابهة كماً ونوعاً. ولا شك أن المعرفة والإبداع صونان ووجهان لعملة واحدة؛ فالإبداع أحد مدخلات ومخرجات إنتاج المعرفة في الوقت ذاته، وأساسها المتين وركنها الشديد، ومُستقره ومستودعه مؤسسات التعليم باختلاف فئاتها العمرية وتخصصاتها الأكاديمية؛ لما لها من دور بارز في استنهاض العقول وحثها، وإحداث حراك معرفي إبداعي منافس ومتميز، وبخلاف ذلك تكون المعرفة مكون خامل قابل للنسيان والاندثار والذوبان.
ومما لا شك أن تحفيز العقل البشري للاطلاع والتأمل المعرفي بوابة لصياغة المنظومة القيمية لدى الإنسان وترتيب أولوياته، والإسهام في تعزيز منظومة المجتمع الاقتصادية من خلال تقديم المنتجات المعرفية الفريدة تتمثل في المخترعات والمبتكرات والاقتصاديات الناشئة وغيرها. فبالأمس القريب كانت الشركات العابرة للقارات تضع ما نسبته 80% من موازنتها للمواد الأولية و20% للمعرفة، واليوم أصبح التركيز على أن يكون ما يزيد على 70% من الموازنة على المعرفة المتجددة والإبداعية، و30% للمواد الأولية إدراكاً منها لأهمية الصناعة الإبداعية للمعرفة.
ومن خلال التجول عبر صفحات العالم تبرز للقارئ نماذج جامعية منافسة وتسابق الزمن في صناعة الإبداع المعرفي، لن أتحدث عن الجامعات العملاقة والصروح الشامخة أمثال هارفاد واستنافور واكسفورد وكامبريدج وجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية وغيرها، سأتحدث عن تجربة التعليم الجامعي السنغافوري، حيث ذكر المركز العربي الديمقراطي للدراسات الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية في معرض حديثه عن التجربة السنغافورية التنموية المتمثلة في استثمار الفرد وتوفير القدرات، بأن دولة سنافورة أصبحت اليوم أنموذجاً يُحتذى به بالرغم من صغر مساحتها وطبيعة تضاريسها وتنوع أعراقها، إلا أنها من خلال منظومتها التعليمية الجامعية أصبحت مصنعاً تنموياً معرفياً من خلال تقديم المنتج المعرفي في صور متعددة كالمخترعين والمبتكرين والحرفيين والمبتكرات العلمية والمعامل البحثية والمراكز المتخصصة مما أتاح لها تقديم مشروع حضاري يجمع بين الأصالة والمعاصرة وتبني سياسة الاعتماد على الذات.
وفي ظل تحفيز القيادة -حفظها الله تعالى- وتخصيص الميزانيات المالية الضخمة لقطاع التعليم وبالأخص التعليم الجامعي؛ إلا أن الواقع يجسد التباين بين الجامعات في التركيز على الإبداع المعرفي والريادة والتميز فيها، والتخصصية والمرجعية فيها، يلحظ المتابع تباين الخطوات ما بين المسرع المنجز والذي يحقق إنجازات علمية معرفية ساهمت في البناء الاقتصادي والتنموي من خلال منتجاتها، وما بين المتباطئ منها والتي لا تزال تقبع في حقبة ما قبل الألفية شعارها الحفظ والاستظهار والتلقين المجرد لينتهي الأمر بالطالب والطالبة إلى قائمة البطالة المقنعة في المجتمع.
اليوم تتجه الأنظار لجامعتنا السعودية لتقود الحراك التنموي للمملكة العربية السعودية من خلال مخرجاتها المؤهلة وتحقيق مرامي الرؤية ومستهدفاتها، والاستماع بتواضع لغة النقد البناءّ وإن كانت لغة موجعة، فمن بوابتها تكون الانطلاقة العملاقة نحو الإصلاح التأهيلي الداخلي لعضو هيئة التدريس أولاً والذي يعكس بصورة مباشرة على الطالب والطالبة، وعندئذ ستفاخر بأصولها البشرية المبدعة والمبتكرة والمنتجة، وبتميزها في صناعة المعرفة وإنتاجها بعيداً عن السعي المحموم وراء سراب الاعتمادات والسعي الحثيث في تحقيق مراكز متقدمة ضمن القوائم التصنيفية للجامعات.
@mesfer753