يمتدحني الاستاذ عبدالرؤوف الغزال ـ وهو احد الذين اخذوا بيدي عندما بدأت الكتابة لـ (اليوم) قبل عدة سنوات ـ بانني ممن يجيدون الرقابة الذاتية بحيث اصبحت مراقبة مقالاتي قبل نشرها لا تشكل إلا موضوعا اجرائيا اظن ان الاستاذ محمد الصويغ ـ مسؤولي الحالي ـ يشاطر الاستاذ عبدالرؤوف هذا الرأي حيث تقلص الشطب والتصحيح بشكل يدعو للاعجاب. لم يعجبني في يوم من الايام اطراء عبدالرؤوف ولايزال الشعور بالاحباط المؤقت ينتابني في كل مرة اسرع لاقتناء (اليوم) حيث اجد مقالي قد نشر كاملا.
صحيح ان شعور نشوة الانتصار على الرقيب ملهمة وجميلة لكن شعور الرغبة في التحدي هو ما يحفز الكاتب على شحذ ازاميل النحت والشعور بالقدرة على فك رموز الحجر في المقال القادم. اعتقد بان شعورا كهذا ينتاب كل هؤلاء الذين يستخدمون سلاح الحرف للاصلاح وسط ظروف مشابهة حيث تكون حرية الرأي مقيدة لظروف موضوعية او غير موضوعية واذا كان الانسان في هذه الحياة موقفا.. يتأثر ويؤثر كما يؤكد ذلك الناقد المصري محمود امين العالم فان المشاعر السلبية لا بد وان تؤثر على عطاء الانسان ومساهمته في عملية الاصلاح. ولقد عثرت قبل عدة سنوات على جواب لمن يقعون في هذا الشعور السلبي لعدم الحاجة لمراقبة مقالاتهم. في اجتماع لاتحاد الصحفيين العرب في صنعاء قبل عدة سنوات قال احد المشاركين في فعاليات المؤتمر واظنه الدكتور عبدالعزيز المقالح ان على الكاتب او الصحفي الذي يصل الى مرحلة عدم مراقبة مقالاته وسط ظروف تنقصها حرية الرأي.. عليه ـ اي على هذا الكاتب ـ تقديم استقالته فورا من الجريدة التي يعمل بها لان استمراره يشكل خطرا عليه وعلى الآخرين. مع عدم موافقتي على هذا الرأي بشكل مطلق الا انني اجد نفسي في كل مرة اريد الكتابة عن موضوع حساس ـ اجدني ـ وجها لوجه امام العديد من التساؤلات المؤلمة يزداد هذا الشعور بالالم مع الشعور بتزايد اهمية الموضوع والامكانيات الذاتية للشروع في الكتابة. ويمضي الوقت ويكتب الآخرون فيطغى اسلوب (عدة الشغل) على بعض الكتابات الجادة والمكتوبة بطريقة الكلمات المتقاطعة. قد يكون اسلوب الكلمات المتقاطعة مفيدا للتصالح مع الذات لكن الموضوع لا يخص الكاتب بل يخص كل من له علاقة بالشأن العام. قد يعتقد الكاتب بانه كتب عن الموضوع لكنه يفاجأ دائما باسئلة الناس تطالبه بالكتابة حول هذا الموضوع الا اذا كان خائفا من السلطات. السلطات في كل زمان ومكان تدعو بل تطالب بالكتابة النقدية البناءة.. المشكلة هي في هذه الكلمة الاخيرة المستعصية بشكل ازلي على الفهم.
في اتصال هاتفي مع احد المسؤولين الاردنيين عما يدعيه السياسي العراقي احمد الجلبي من ان لديه (2500) وثيقة تثبت براءته من فضيحة بنك البتراء ومسؤولية اجهزة الامن الاردنية في هذا الموضوع. يرد المسؤول الاردني على النحو التالي: (الجلبي ليس لديه وثائق والا فلينشرها واذا نشرها فهي مزيفة على كل حال).
هذا هو منطق السلطة في التعامل مع الاعلام وقد يكون هذا المنطق مبررا في نظر السلطة السياسية في اي زمان ومكان لكن المشكلة هي ان يقوم الاعلام باستعارة اسلوب السلطة وبشكل مقلوب اي بالتمجيد والمدح. في محاضرة القيت مؤخرا حول الاوضاع في الخليج بعد الحرب ودور المثقفين في رسم تصورات المستقبل يقول المحاضر ان العديد من مثقفينا يرون الخطوط الحمراء قريبة جدا بينما توجد اميال لابد للمثقف من قطعها حتى يصل الى هذه الخطوط.. هل اكون احد هؤلاء المثقفين وانا اكتب هكذا؟.