قبل ان ينتصف ذلك النهار اللاهب، خفتت فجأة نداءات الباعة الصغار في السوق الشعبي في محلة مهملة من محلات مدينة في الجنوب بقيت يد الحاج حنظل المتربع على كرسي عريض من سعف النخيل امام خان الخشب، معلقة في الهواء الساكن وهي تقبض على عود مروحة الخوص الصغيرة التي تهتكت حوافها من كثرة ارتطامها بوجه الحاج المتغضن. لم يشأ القصاب البدين ان يفوته المشهد المثير فازاح متذمرا كومة من الذباب امام وجهه وفرك يديه بثوبه الملطخ بالدماء. حتى الزايرة ام حسن، بائعة الدجاج كادت تصرخ لكن يدها المرقشة بالذرق خنقت الصرخة افلتت دجاجة من حبل القماش الذي كان يربط رجليها مع ارجل ثلاث دجاجات اخريات، لكن العجوز ظلت جامدة في مكانها تنقل نظراتها بين ما تراه امامها وبين الدجاجة التي انسلت راكضة من بين قدميها لتختفي بين صناديق الباعة قفز عليوي محاولا اللحاق بالدجاجة لكن الرجلين اسقطاه على الارض وداسا على رأسه قبل ان يرفعاه من تلابيب قميصه مثل قطة ميتة.
شهقت العجوز قائلة بصوت خفيض ملئ بالشفقة والالم وهي تلطم خدها الذي حمصته الشمس: يا لك من مجنون مسكين يا عليوي! حتى انت لم تسلم من ايديهم؟ كان الله في عون أمك!
الآخرون في السوق تابعوا بعيون نصف مغمضة ذلك المشهد الذي عمق في نفوسهم الذل والاحباط والغضب.
ظل عليوي ينقل نظراته ببلاهة لرجلي الامن اللذين تأبطا ذراعيه بقوة مثل طفل يسحبه والداه عنوة.
عرفهما اهل السوق من شواربهما الغليظة والنتوءين البارزين عند خاصرتيهما لكن عليوي سرعان ما نسي ما حدث فراح يتلفت نحو الباعة والمارة متلمظا بينما راحت زوادته تتأرجح مع خطواته المتمايلة.
لم يكن عليوي قد تجاوز الثلاثين غير انه كان يبدو ابن الاربعين بوجهه النحيل وعينيه الغائرتين ولحيته الكثة المغبرة وشعره الاشعث الذي اختلط فيه الشيب والغبار، وقدميه المتشققتين كان قميصه المفتوح يكشف عن عظام ناتئة مغطاة بنتف من الشعر تمتد من اللحية حتى الصرة.
اما سرواله فلم يكن سوى فراغات تربطها خيوط كالحة.
وعلى الرغم من قذارة مظهره ورعونة صيحاته، كان عليوي محبوبا من اهل المحلة واصحاب الدكاكين وباعة الخضراوات ممن افترشوا ارض السوق تظللهم خرق من اكياس الجوت. لم يكن يطلب شيئا منهم، بل كانوا يوقفونه ويضعون في زوادته ارغفة الخبز وباقات الخضار وحبات الطماطا ومخاريط ورقية مملوءة بالسكر والشاي والبهارات، كان ذلك ما يكفيه وامه المشلولة الممددة في كوخ قصبي لايجاوره مبنى سوى مقبرة الانجليز.
تراكض عدد من الاولاد يودعون عليوي بنداءات مرحة طالبين منه ان يؤدي لهم رقصة (البزخ) قبل ان يغيب مثل كثيرين تأبطهم رجال الامن ولم يعودوا منذ زمن بعيد حاول عليوي التملص من قبضة الرجلين ليحقق للصغار رغبتهم لكنهما منعاه لوح احدهما بمسدسه فتراجع الاولاد مذعورين. حرك ضابط الشرطة الكبير يده امام وجهه طاردا الرائحة الزنخة الممزوجة بالعرق التي اكتسحت الغرفة لكنه تذكر فجأة ان هذا الرجل الهزيل المرتعد خوفا هو المجنون المطلوب، وحين دقق النظر في عليوي طول قامته وملامح وجهه انبسطت اساريره شعر عليوي بالامان دارت عيناه القلقتان في الغرفة ثم استقرتا على الصورة الكبيرة على الدار فوق رأس الضابط الكبير. تراجع الى الوراء رافعا يديه المثقلتين با لقيود مرددا بصوت متقطع: هو.. هو.. لا تبصقوا عليه اذا فعلتم ذلك سيقتل امهاتكم المشلولات!
قال الضابط المسترخي على مقعد وثير مخاطبا رجلي الامن وهو يعدل الحافة المكوية لسرواله: شيء مدهش! تنطبق عليه جميع المواصفات.. أرأيتم؟! كل شيء اصبح ممكنا لقد اتاح لنا هذا المجنون ابرام صفقة بملايين الدنانير! ليبق الامر سرا بيننا نحن الثلاثة والسيد المحافظ ومدير السجن.
فتح الضابط حقيبة صغيرة واخرج منها رزما من اوراق نقدية وقدمها الى الرجلين: هذه فقط مقدمة المكافأة.. اما البقية فتحصلان عليها بعد انتهاء المهمة! اما الان فتعرفان ما يتوجب عليكما فعله.. لن تشعرا يوما بتأنيب الضمير. المجانين موتى مع وقف التنفيذ، ما فائدة الحياة لمن لا يدرك ما حوله؟ الجنون حالة خطيرة لانك لا تستطيع التنبؤ بما يفعله المجنون في اللحظة التالية!ّ هذا المجنون سيقدم غدا خدمة للانسانية.. أليس كذلك؟
اطلق عليوي ضحكة عالية وهو يسبق رجلي الامن في الصعود الى سيارة الشرطة حين انطلقت السيارة، كان عليوي يطلق صيحات الفرح وهو يتشبث بقضبان النافذة الصغيرة في مؤخرة السيارة.
في منتصف الليل تعالى الصراخ في الزنزانة الانفرادية المعزولة، تراكض الحراس رافعين هراواتهم قال عليوي باكيا: ستموت امي من الجوع! لم تأكل شيئامنذ الصباح.. ليس هناك من يطعمها! لاتقتلوها.. أنا لم ابصق عليه! من سرق زوادتي؟ قال عريف الخفر في السجن الكبير: سأبعث لها الآن خروفا مشويا.. في الصباح ستذهب اليها!
عند الفجر اقتيد عليوي الى ساحة السجن. اصعدوه على منصة. تنفس بعمق ملتذا ببرودة الهواء، بينما كان احدهم يقرأ ورقة بصوت عال:.. وبعد ثبوت تهمة الاغتصاب والقتل، وبعد مصادقة السيد رئيس الجمهورية، تقرر تنفيذ حكم الاعدام بالمجرم عادل حاتم الناصري..
قبل ان يشهق عليوي بنفس آخر. غطوا رأسه بكيس.. وتأرجح عليوي في الهواء.