(جرح مفتوح، وعدالة شائخة، وضمير إنساني كسول وأعمى لا يفعل غير أن يعد حصيلة الخراب ويتأفف من وفرة دماء الموتى).
هذا القول الذي كتبه أحد الشعراء العرب في فجر الانتفاضة؛ في أيامها الأولى لا يزال صالحا للاستعادة كلما غرز الجلاد نابه أكثر واشتد ولوغه في دم الضحية الفلسطيني تحت سمع وبصر العالم تنقله الكاميرا ليمر المشهد بكل عنفه وسخونته أمام العين وأمام الضمير. لكن شيئا لا يحدث. لا أحد يتحرك. باتت الأغلال غليظة تحبس الارادة وتلجم الألسن حتى عن النصرة بالقول. وثمة من يتنطح ليفقأ الحقيقة ويسمل عيونها حتى لا ترى في الضحية إلا ما يستحق القتل والتنكيل والتدمير. يمنح الجلاد رخصة بالقتل، تنال الجمع الفلسطيني دون تدقيق في الهوية، كما يحصل على الضفة الأخرى، لا فرق بين طفل وعجوز وامرأة ومقعد أو مقاتل. الفلسطيني هو الفلسطيني برسم الابادة والاستئصال ولا يهم بعد ذلك أن يكون جنينا ينتظر خروجه الى العالم تحت رحمة سلطة الحواجز الأمنية.
هو مشروع ارهابي ينبغي وأده ليس في المهد، ولكن في الرحم قبل ان يخرج ويحمل بيده حجرا يرميه بوجه مغتصب ارضه وقبل أن يشب عن الطوق ويحمل الجرح والسلاح.. كولن باول الذي راهن عليه مراهنون وسقط في السباق يحنو على الارهاب الاسرائيلي ويطلق يد التفهم للتوغل في الدم الفلسطيني: (مثلما رددنا على الإرهاب نفهم أنكم أيضا تردون) ويعمى آري فليشر المتحدث باسم البيت الأبيض عن اليد الملطخة بالدم والنابضة بالدمار والاقتلاع اليومي. يعمى ويعمم عماه على العالم بأن (شارون رجل سلام ويلتزم بالسلام ويسعى الى السلام).. إذن من يسعى الى الموت وينشر ألويته السوداء على كل بيت فلسطيني. ويرسل صواريخ الفجر الى البنايات الآهلة بالمدنيين الآمنين؛ تقصف وتروع وتبيد الأطفال في خسة ولؤم لا تتورع ولا تعتذر عما تنجزه من انتهاك صارخ يزري بالأعراف الدولية والقيم الانسانية، وينكل بها على مرأى ومسمع من الشهود الذين أودى بهم الصمم والعمى عن أن يلحظوا هذا الانتهاك ويحاولوا أن يقفوا في وجهه وأن يضعوا له حدا..
بربرية هائجة هائمة تأتي بالتوحش والاستعلاء العنصري البغيض، تقود حربا همجية، ينتشي جنرالاتها بالدم والمجازر وبالقبور الجماعية تضم الأشلاء وبقايا الكائن.. ينتشون على نغمة دحر الارهاب الفلسطيني وقلع أسنانه من منابتها، ليغدو المسرح جاهزا لاستقبال الجثث التي تبصم على الإملاءات والشروط المجحفة.
العالم لا ينشغل بإرهاب الدولة الاسرائيلي المتنفذ منذ أكثر من خمسين عاما.. لا يلفته غير قيام الضحية واحتجاجها على مصير السلخ والدفن.. تقدم آلتها الحربية الوحيدة: الجسد المفخخ.. لا يسأل ـ هذا العالم ـ عن القضية الأساسية وهي وجود الاحتلال واغتصاب الأرض، وتشريد شعب وحصره في معازل تهون عنها حياة الحيوانات التي لبعضها من الرفاه والدلال ما ليس للفلسطيني.
السؤال العادل عن ليل الاحتلال الطويل. لا السؤال الجائر والمغلوط عن الفلسطيني الذي يحتج بجسده المفخخ ويفتح الدرب المنير في حلكة هذا الليل الذي تصم فيه الآذان وتغمض العيون عن الحقيقة الواضحة التي يريدون التغافل عنها والانشغال بسؤال لا وجود له لولا هذا الاحتلال.