العبارة الشهيرة للفيلسوف الفرنسي مونتيسكو (تنتهي حريتك حيث تبدأ حريات الآخرين) من منا يحسن تطبيقها في كل زمان ومكان؟ ومن ذا الذي لا يخلط بين الحرية والنظام بحجة أنه حر، أو بحجة أنه يقدم النصيحة؟ لا شك أننا نعاني من التباس شديد بين تلك المعاني التي تدور حول معنى الحرية وقيمتها وأثرها والتعامل مع أنفسنا والآخر على ضوئها. والمؤسف أن كثيراً ممن يعتدون على حريات وحقوق الآخرين يفعلون ذلك بمبررات عقلية ونقلية يستندون عليها لتكميم عقول وأفواه الآخرين، فاعتداؤهم لا يتوقف عند حدود المنع عن الفعل، ولكن أيضاً المنع من القول المبني على فكر ما.
الشباب الذين رقصوا في أحد شوارع الخبر قبل فترة كان أحدهم يقول: سجلوا إننا كسرنا الحواجز للمرة الرابعة!! أهذا هو السر في التعدي على حقوق الآخرين وحق الطريق وحق النظام الذي اعتاده الناس في الشوارع؟ أهذا هو المفهوم الذي يتعامل به بعضنا مع حرياتهم وحريات غيرهم؟
إن النماذج لمثل ذلك التعدي كثيرة لا تحصى، ونحن نواجهها في كل مكان، بعضهم يفعل بسفاهة، وبعضهم يفعل لأنه يعتقد أنه على حق في ذلك، خاصة عندما يتعلق الأمر بما يظهر أنه مجرد نصح وإرشاد، وأن ذلك يعطيه الحق كله ليسيء لغيره ولا يتوقع أن يكون لكلماته أثر سيئ عليه قبل الآخرين. كأننا في العالم العربي نعاني من انعدام الرؤية بسبب الضباب العقلي الذي يحجب عنهم رؤية من يتعاملون معهم ويمارسون حرياتهم ضدهم، أو يتفهمون مقاييس اختلاف مفهوم الحرية عند كل شخص يتعاملون معه. وبالتالي نستطيع أن نرد كثيراً من مظاهر الخلافات بين الناس والعنف الذي يتعاملون به مع بعضهم بعضاً سواء كان ذاك العنف حسياً أو معنوياً إلى ذلك الخلط في المفاهيم، وعدم القدرة على استيعاب معنى عبارة «مونتيسكو» السابقة .معظم شباب اليوم لم تتح لهم فرصة الاطلاع والانفتاح على الثقافات الأخرىإن الاعتداء على حرية الآخرين يحدث في كثير من الأحيان تحت مظلة (اللا وعي)، وغياب الوعي هو أحد الأسس التي تبنى عليها الأخطاء في مجالات شتى، وتبدأ من علاقتنا بأنفسنا ثم علاقتنا بغيرنا من الأقارب والأباعد. وهذا هو نفسه الذي يراكم الأخطاء ايضاً التي تبدأ بالسلبية في مواقفنا ممن حولنا والاقتراب منهم أو الابتعاد عنهم.
إن الوعي الذي تطلبه المجتمعات لتتغير بشكل أفضل يحتاج إلى جهود ايجابية، لخلقة جهود مميزة غير تلك التي تهون من أمر كل خلل واضح، وتدعي أن الزمن سيصلح تلك الأمور وأنه كفيل بسد الثغرات. ذلك الوعي لا يقوم على دور المنبر الديني فقط؛ لأن هذا التفرد من قبل من يقفون على تلك المنابر أضعف مواقفهم، وجعل الناس يحاسبونهم على كل صغيرة وكبيرة، حتى وصلوا إلى رفضهم ورفض ما يقدم لهم منهم بعد أن تسببوا في إرباك عقولهم بين ما هو من الدين فعلاً وما هو من أفكارهم التي ضيقوا بها على الناس، وبنوا حولهم اسواراً عالية أفقدتهم الرؤية حين راح أولئك يقللون من شأن الآخرين ويشيرون إليهم وكأنهم علامة من علامات السوء وبدايات طريق الضلال، فوسائل الإعلام والمؤلفات الأدبية والفكرية كانت ومازالت تواجه هجوماً شرساً من قبلهم؛ خوفاً من أثرها التنويري على العقول، ولأنهم يجدون في بعض ما يقدم فيها وسيلة إثبات على ما يروجون له من أفكار، فهم لا يريدون للناس أن يستمعوا إلى سواهم ولا يرون إلا هم، ولا يؤمنون بفكرة أن أرى وأسمع كل شيء ثم أفحصه وانتقي منه ما يناسب قناعاتي وعقلي. لماذا يكون النصح والإرشاد والتوجيه محاصر ومحدود النماذج؟ إن الارتباك الذي يعيشه معظم شباب اليوم ممن لم تتح لهم فرصة الاطلاع والانفتاح على الثقافات الأخرى هو بسبب التعدي على حرياتهم العقلية بالحصار الذي فرض عليهم دون وعي، ولهذا جاءت بعض النتائج مروعة في التحول من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال. نحتاج أن ننمي ثقافة الإطلاع ثم الاختيار، وألا نجعل الدين مركباً سهلاً لأن هذا أساء إليه أكثر مما أفاده.