مرت سنوات طويلة ما بين زيارتي لمكة المكرمة لأول مرة عن طريق البر، وزيارتي الثانية التي انتهت قبل أيام قلائل. خلال تلك السنوات تغيرت أشياء وبقيت أخرى على حالها، ولكن التغيير الأكبر هو ما حدث في نفس مكاتبتكم، إن كل سنة مرت بين الرحلتين كانت كفيلة بتغير النظرة إلى كل ما عايشته خلال الرحلتين، فلم تعد النظرة هي النظرة، ولم تعد الصفات والسمات الشخصية كما كانت، فنحن كلما كبرنا كبرت معنا القدرة على التأمل في كل ما حولنا، من أحياء وجمادات ومعان مختلفة للمشقة التي يفرضها الطريق البري، رغم أن الطرق البرية اليوم لا تجعلنا نعاني كما عانى من سبقونا، فنحن اليوم نقطع الصحراء بسيارات وثيرة المقاعد ومكيفة الهواء، وكل تعب ينال منا هو من ساعات السفر الطويلة التي لا تقارن بأيام من السفر، كان القدماء يعانون فيها شدة الحر أو البرد وغير ذلك من التفاصيل الأخرى.ما نراه في محطات التوقف، من نقص في جاهزية تلك المحطات، لاستقبال المعتمر والحاج، لأمر مؤسف حقاً لكن ذلك العناء هو إحدى فوائد الرحلة، حيث يتيح لك ذلك أن تعيش جزءاً من أسرار شعائر الحج والعمرة، فتقترب من المخيلة صورة سيدنا ابراهيم -عليه السلام- وزوجه هاجر، وقوافل الحجيج الذين قطعوا المسافات الطويلة، وركبوا الجبال الصخرية، وهبطوا الأودية في أجواء مناخية متقلبة. لا شك أن ذلك العناء هو جزء من مجاهدة النفس وتهذيبها وتربيتها بأسلوب إلهي، قد لا يفطن إليه إلا من يملك القدرة على التأمل والبحث عن الحكمة التي تظهر تارة وتتوارى أخرى، ونحن نسعى خلفها سعينا لمزيد من الإيمان واليقين الذي أضاعه كثير منا حين لم يفرقوا بين الإسلام والإيمان، وحين أعطوا للعبادات كل تركيزهم واهتمامهم حتى أصبحت عند بعضنا مجرد عادات تمارس، دون أن يتلمسوا فوائدها العقلية والعاطفية، ويربطوها بالعمق الإيماني الذي يجعلهم يعطون للتعاملات والأخلاقيات الاهتمام نفسه، ولهذا لا عجب في أن نرى نماذج ذلك الاختلال الواضح في ممارستهم للحياة والعمل كأفراد وكمؤسسات!!
إن ما نراه في محطات التوقف من نقص في جاهزية تلك المحطات، لاستقبال المعتمر والحاج، لأمر مؤسف حقاً، وهو بعيد كل البعد عن بعض أهداف تلك الرحلة، فكيف لمن يتجه لبيت الله أن يحافظ على عقله ولسانه من الزلل وهو يستنشق ما يستنشقه من روائح كريهة في تلك المحطات، ويرى ما يراه من مناظر منفرة لقذارتها ومطلوب منه أن يتسامى روحانياً، ويذكر الله كثيراً ويتهيأ بالاغتسال والتطهر؛ ليطوف حول الكعبة ويسعى بين الصفا والمروة بتضرع وخشوع واستشعار لقيمة كل خطوة يخطوها هناك!!
كيف له أن يسجد لله في مواضع تحاصرها النجاسات رائحة وأثرا. كيف يتأتى له ذلك بين الحشرات وانعدام النظافة، التي هي واحدة من وصايا ديننا لنا التي تكررت بعدة صيغ في القرآن والسنة أحدها تكرار ذكر الطهارة والمتطهرين في القرآن الكريم والحث عليها في السنة النبوية بعدة صور ووصايا منها: إماطة الأذى عن الطريق، ونحن اليوم نرى من لا يكتفي بإيذاء الناس في الطريق، فيؤذيهم حتى في أماكن جلوسهم وتطهرهم على طول الطريق، كيف لا يقرن الناس بين العبادة المطلوبة منه تجاه نفسه والعبادة المطلوبة منه تجاه الآخرين، كيف صار الإيذاء القولي والعملي ممارسة يومية للناس، دون أدنى شعور بالذنب، بل إن بعضهم يتوهم أن في ذلك الإيذاء بأي طريقة كانت صورة من صورة القوة الشخصية!!
إن إشغال الناس بتفاصيل التفاصيل في العبادات، أنساهم الجوانب الأخرى المرتبطة بالإيمان وأعمالها كثيرة جداً وردت في الكتاب والسنة مقدم لها بـ من آمن .... فعل كذا وكذا، فأين نحن من كل ذلك اليوم؟