هو أحد علامات النقد البارزة في عالمنا العربي، أصدر العديد من الدراسات المؤثرة في مجال النقد الأدبي، منها: «قراءة الرواية»، و«قراءة الشعر»، و«نصوص من النقد الأدبي»، كما ترجم إلى العربية "تيار الوعي في الرواية الحديثة" و"حاضر النقد الأدبي"، وأصدر في سيرته الذاتية كتابين، الأول بعنوان: "في الخمسين عرفت طريقي"، والثاني بعنوان: "بعد الخمسين، فهو صاحب منهج متميز في النظر إلى النص الأدبي، وصاحب رؤية في النظر إلى الحياة والأحداث، وقد انعكست هذه الرؤية في إنتاجه كله سواء كان ذلك في كتبه أو مقالاته الصحفية. عمل في معظم جامعات مصر والعالم العربي، مثل جامعة القاهرة، وجامعة الجزائر، وجامعة الكويت، إلى أن استقر عمله في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، كما أشرف على عدد من الرسائل العلمية، وشارك في ترقية عدد من أعضاء هيئة التدريس، وشغل عددا من المناصب الإدارية بالجامعات، إنه الدكتور محمود الربيعي التقي به الجسر الثقافي وكان هذا الحوار:
زمن الشعر
هل هذا الزمن ليس زمن الشعر.. ما تعليقك؟
- المقولة الظالمة التي تقول: إن هذا الزمن ليس زمن الشعر، هي من أغرب ما سمعت في حياتي، فإذا أحسنت الظن بمن يقولون هذا، فإني أقول: إن هؤلاء أقوام لا يدركون معنى الشعر ولا دوره، أما إذا أسأت الظن بهم ونحن في زمن سوء الظن فيه عصمة، فإني أقول: إن الإنسان عدو لما يجهل.
الشعر الحقيقي
هل من يقول بهذا، لابد وأن يكون مبدعاً بطبيعة الحال، وهل قابلت مثل هؤلاء؟
-قد بلوت أنا نفسي أقواما من هؤلاء في مؤسسة تعليمية عملت فيها ربع قرن من الزمان، ورأيت بمنتهى سوء النية كيف أن بعض القائمين على دراسة الشعر، ينتهون بالشعر العربي عند حدود ما يعرفونه، ولكني أرى أنهم ليست لديهم الأمانة التي تجعلهم يقولون: نحن نتحدث عما نعرف ونطوي صفحة ما لا نعرف، وهذا شيء أقبله بالطبع، ولكنهم يقولون: إن الشعر الحقيقي يبدأ من هنا، أي من النقطة التي يستطيعون هم أن يتحدثوا عنها بإمكانياتهم الثقافية، وهذه هي النظرة الجهول العدوانية.
صيغ جديدة
هل الشعر يمكن أن ينتهي عند زمنٍ ما؟
- قال الشاعر القديم: إني إذا قلت شعراً مات قائلهُ.. ومن يُقال لهُ والشعر لم يمت، الشعر كالمادة لا يفنى ولكنه يتشكل في صيغ جديدة، ويتسرب في نفوس وقيم ولغات جديدة.
تعريف للشعر
إذاً ما هو الشعر؟
-هذا هو السؤال المستحيل، ففي قراءاتي قرأت حوالي 500 تعريف في محاولة إيجاد تعريف للشعر، ولكنني قرأت لأحد الشعراء تعريفاً لطيفاً حين انتهى إلى أن الشعر كالضوء نستطيع أن نصف بعض مظاهره أو تأثيراته علينا، ولكننا أبداً لا نستطيع أن نعرفه، وقال آخر: يوجد من تعريفات للشعر بعدد القصائد الجيدة، فكل قصيدة جيدة يمكن أن تضع تعريفاً للشعر، بينما قال الشاعر الثائر المكسيكي الجرئ «أوكتافيو باث»: الشعر حالة بينية بين ما نراه و ما نقوله، وما نقوله وما نسكت عنه، وما نسكت عنه، وما نحلم به، وما نحلم به وما ننساه.
حالة نادرة
متى يمكن أن تقول بأن هذا الشعر شعر متميز ؟
-الشعر في جميع الأحوال حالة من حالات الاختراق في الفكر والعاطفة والأحساس، وما لم يحدث اختراق في مكان ما في قول الشعر، نظل مع الشعراء في الحالة العادية المستوية وهي حالة لا بأس بها، لأن حالة الاختراق حالة نادرة تحدث مع الشعراء الممتازين فقط.
اختراق الحياة
وماذا يعني مصطلح الاختراق لديكم؟
- الاختراق حالة بينية لأننا نعيش الحياه أفرادا و جماعات، ونبني العديد من التقاليد والعادات، فهذه الحياة إذا لم تكن قابلة لأن تُختَرق فلا أمل في أن تُلبي لنا الحاجات المتجددة، واختراق الحياة يصحح مسارها فتصبح حالة شعرية وليست حسية وعلى ذلك فالشعر يتخلل كل ما ننسبه نحن إلى عالم الحس، وعلى ذلك فما لم نر العالم رؤية شعرية فإننا نحكم عليه بالخراب، ثم الانقراض.
النقص الفظيع
هل يمكن لصناع القرار استلهام الخيال في مشروعاتهم؟
أصارحكم بأن هذا هو النقص الفظيع الذي يتصف به أصحاب القرارات، فهم يخجلون جداً إذا طلبت منهم أن يمتلكوا خيالاً مستقبلياً حين يأخذون قراراتهم في صناعة الأسمنت أو في رسم خطة اقتصادية أو في تصميم عمارة على سبيل المثال، فإذا قيل لهم انظروا إلى ما ليس هو موجود الآن، واحلموا يظنون أن الوقت لا يحتمل إلا "الحديد الأصم"، وهذه علّة التخلف الحاصل في بلادنا.
الشعر ميزان
هل يمكن للشعر أن يترجم طريقاً لصنع الحضارة؟
- كلما ابتعدنا عن أن نستشعر الشعر في أعمالنا نكون قد ابتعدنا عن الحضارة، فالحضارة مفرداتها معروفة وقمتها الصدق، وانظر حولك وتأمل في أي مظهر من مظاهر الحياة، هل تجد فيها معنى شعرياً؟! .. الشعر ميزان عدل، وهو يعيد التوازن للعالم وليس بمعقول أن ما يفتقر إلى التوازن يحقق التوازن، فيجب علينا أن نتأمل في معنى ميزان الشعر وموسيقاه.
يعبرون بالصورة
كيف للقارئ أن يكون شاعرا؟ً
-الشعر موسيقى، وصورة، ولقد وقفت على قولين أحدهما لـ "عزرا باوند"، وهو شاعر إيطالي أمريكي والثاني لـ "المتنبي"، فوجدت كيف يتطابق الفكر في الوقوع على الشيء حتى في المثال، قال الأول: إن أصدق لغة للشعر هي لغة الصينيين القدماء، لأنهم كانوا يعبرون بالصورة بدلاً من التعبير بالكلمات، فإذا أرادوا أن يقولوا هذا حصان واقف رسموا حصانا بأربع أرجل، وإذا أرادوا أن يقولوا إنه يجري، فرسموه برجلين فقط والمعنى واضح، قال المتنبي في وصف الحصان: رجلاه في الركض رجل و اليدان يد، فهو يعبر بالدقة عما أراده عزرا باوند.
أحب القضايا
هل للشعر أن يكون ريشة يرسم بها الشاعر لوحة ما؟
- أنا من الذين لا يصفقون لأي شعر يعتمد على المباشرة أو مخاطبة الأذن، وإن تناول أحب القضايا إلى نفسي أو أعظم القضايا التي اتفق عليها الناس، ولكنني أستجيب حين يحملني الشعر إلى كشف ما لم يكن لدي، وإن كان يخايلني قبل أن أستمع إليه فهو يضعني على الموجة التي كنت أتشوق إلى أن أصل إليها ولا أتبينها، فأنا لا أستجيب كثيراً إلى قصيدة أمل دنقل "لا تصالح" في حين أستجيب لقصيدته عن مدينة السويس التي يقول فيها: وفي أثير الشوق كدت أن أصير ذبذبة.
موت المؤلف
ماذا يمثل القارئ بالنسبة للشاعر؟
في النقد الأدبي يتحدثون عن موت المؤلف، وهم يقصدون أن النص هو سيد الموقف والشاعر ينبغي أن يقول كلمته ويمضي، ولكننا فوجئنا أيضاً أنه ليس فقط المطلوب موت المؤلف، بل أيضاً موت النص، والذي يبقى هو أنا و أنت "المتلقي"، فيكون القارئ هو العنصر الحي الوحيد في هذه المعادلة، وهو الذي يستطيع إحياء الكلام بقراءته أو تركه راقداً في ديوانه على الأرفف، وهذا هو معنى موت المؤلف وموت النص معا.
نص مقروء
إذاً فهل يمكن للقارئ المشاركة في إعادة كتابة النص؟
- القارئ لابد أن يعيد كتابة النص، ونحن نجد أن النص نصان، نص مقروء أقرأه ولكني مهما اعتصرته لن أستخرج منه أكثر من نصوص سابقة عليه في لغته، فهذا نص مقروء وما يمكن أن تفعله به أن تضيفه إلى الرصيد العادي، أما الآخر فهو النص الاختراقي الذي لابد وأن يعيد القارئ كتابته، وكأنه نص جديد لم يحدث من قبل أن كتب، والنصوص المقروءة كثيرة والمكتوبة قليلة، ونحن نرحب بهذا ونفهمه وننتظره من الشاعر العربي الحديث.
الهيمنة الخارجية
هل ترى أن الشعر العربي يستطيع مواكبة الموجة الحداثية في العالم؟
نحن نهتز للكلمة البسيطة، لأنها تخاطب شيئا في أنفسنا ولا ينبغي أبداً أن نتسول الحداثة حتى يقال عنا أننا حداثيون، ينبغي بأن نكون حداثيي القلب والعقل والضمير، لا أن نكون أسرى النظريات، وبخاصة إذا كانت مجلوبة من ثقافات الهيمنة الخارجية التي كشفت عن أنيابها، ونعاني منها وسنعاني في مستقبل الأيام.
ضريبة المعرفة
ماذا ترى في الشباب وهل لابد من إعادة تكوين الثقافة العربية ليكون الإنسان عنصراً أساسياً فيها؟
-أحب أن أقول: إن عالم المعرفة فرض على كل إنسان يتصدى للثقافة أو لمحبة أو لنقد الشعر، وكل ما يجود به العلم ملك لنا والمهارات والأسلحة ينبغي ألا تتوقف، ولننظر حولنا ونقول: أيها الشباب الذي طاب لك أن تقول إنك على وشك أن تقود المسيرة.. ما الذي تسلحت به معرفياً؟، وما الذي قدمته برهاناً على أنك تخرجت في المعاهد العلمية؟، فوفيت ضريبة المعرفة، وتسلحت بالحداثة الحقيقية من لغات أجنبية حية، ولغة العصر وهي التكنولوجيا، ما الذي تسلحت به قبل أن تتكلم عن قيادة الأمة؟ وقبل أن نرى منك هذا الجانب الفظيع الذي يملأ الجدران بذاءة و تطاولًا؟ إنه يحز في قلبي أن أرى معاهد العلم يقال فيها الآن: فلان لص والآخر حرامي على الجدران وفي قاعات الدرس وهذا لا يحرك ساكناً لأحد.