على طول مول دبي، وهو واحد من أكبر مراكز التسوق في العالم، تقع نسخة بديلة عما يمكن أن تكون تجربة حقيقية في البيع بالتجزئة في أغلب مدن الخليج، إنها السوق العربي التقليدي.
إذا تجولت في إحدى الأمسيات في هذا السوق مكيف الهواء والذي يخلو من كثرة المساومات والجدال في الأسعار وحيث تلتقي بعاملين أغلبهم من الآسيويين الذين يبتسمون لمن يمر بهم، يمكنك السير متمهلاً لتصل إلى شواطئ بحيرة برج خليفة الاصطناعية، وهو الاسم الذي أطلق عليها تيمناً ببرج خليفة الذي يطل على هذه البحيرة، وهو أطول مبنى في العالم.
هنا يمكنك أن تلتقي بخليط مقيم من البشر شبيه بما يمكن أن تراه في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومن السياح الذين يرتادون كل شيء من الدشداشة إلى الأزياء التي صممها كريستيان ديور، أو يمكنك التحديق باندهاش في نافورة دبي وهي تقذف في كل نصف ساعة من خلال مجموعة من الفتحات المصممة بالكمبيوتر نفثات من الماء ترافقها نغمات راقصة تدوم دقيقة واحدة من الموسيقى العربية وبعدها تسمع أندريا بوسيلي وهو يغني أغنية «كون تي بارتيرو».
تبدو هذه المدينة المصنوعة من الزجاج والفولاذ الغارقة في بحر من الأحلام وهي تبزغ من بين الرمال القاحلة لشبه الجزيرة العربية كما لو أنها ليست أكثر من حلم ولد من رحم الصحراء.
لم تكن دبي أبداً أكثر شبهاً بالخيال مثلما كانت عليه قبل خمس سنوات بعد الأزمة المالية العالمية التي حطمت ما كان حصناً للثروة والنمو. انخفضت أسعار البيوت بنسبة وصلت إلى 60 في المائة. وحوالي نصف مشاريع الإعمار التي بلغت قيمتها 582 مليار دولار إما تم تعليقها أو هجرت، وتركت هياكلها المعدنية غير المكتملة ترتفع من بين الرمال، وكأنها قصيدة من شعر رومانسي إنجليزي عن أفول الفرعون رمسيس، لكنها تتحدث عن القرن الحادي والعشرين.
رقصة باليه ميكانيكية
الآن دبي تزدهر من جديد. ولفهم السبب في ذلك، عليك السفر وقطع المسافة البالغة 32 كيلومتراً من دبي مول إلى جزء من المدينة لم يره سوى عدد قليل من السياح.
هنا إذا مررت من خلال بوابات الأمن في ميناء جبل أبو علي، فستجد في استقبالك رقصة باليه ميكانيكية أخاذة من نوع آخر، وهي تتم في لحظة عابرة ولكنها أكثر أهمية بالنسبة لمصير حكومة المدينة من مياه نافورة دبي الراقصة.
هنا يمكنك رؤية الرافعات العملاقة والمحمولة على شاحنات وهي تتحرك أفقياً فوق سفن الحاويات التي يبلغ طولها 365 متراً المتجهة إلى موانئ مومباي أو سنغافورة أو روتردام. سترى هذه الرافعات وهو تلتقط بخفة ونعومة الحاويات من ساحة معبدة بالأسفلت، ثم ترفعها في الهواء بحركة رشيقة واحدة وبعد ذلك تضعها على سطح السفينة الراسية مثلما نراه في مكعبات لعب الأطفال.
يعتبر هذ الميناء أحد الركائز الأساسية التي تعتمد عليها جهود حاكم دبي، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، لضمان أن النمو في هذه المرة يقف على أسس أكثر ثباتاً ويتحرك بعيداً عن العقارات ويميل بدلاً من ذلك إلى التجارة والشحن، إضافة لأعمال المال والسياحة.
ممر إلى بلدان التخوم
تمتلك دبي كميات قليلة جداً من الاحتياطات النفطية. ولكن حكومة المدينة تمكنت عوضاً عن ذلك من وضع نفسها في مكان مفصلي يربط بين آسيا وباقي دول العالم، ولتكون المدينة البوابة الرئيسية للدخول إلى أسواق التخوم السريعة النمو في إفريقيا وملجأ آمناً للمستثمرين الذي يتحاشون العمل في دول تشكل قوساً يمتد من ليبيا إلى أفغانستان.
ولكن ومع وصول أسعار العقارات إلى مستويات عالية جديدة وسط خطط لبناء المزيد من أبراج المكاتب والمنتجعات الفاخرة والكثير من مولات التسوق الضخمة، يبقى السؤال هو: هل تستطيع دبي الهروب من فائض العقارات الذي كان سبباً في إغراقها في الماضي تقريباً؟
يعتقد محمد الشيباني أنها تستطيع ذلك. وقد سبق أن وظف الشيخ محمد حاكم دبي السيد الشيباني للمساعدة في إعادة هيكلة مبلغ يصل إلى 110 مليارات جنيه استرليني (177 مليار دولار) من ديون دبي التي بقيت عليها في عام 2009. والشيباني، البالغ من العمر 50 عاماً، هو المسؤول التنفيذي الرئيسي في هيئة استثمارات دبي التي تشرف على الأصول التجارية للحكومة، وهو أيضاً المدير العام لبلاط حاكم دبي الذي يعمل كمجلس استشاري للأمير.
لا توجد خديعة
كانت مهمته الأولى هي حث المقرضين على منح دبي الوقت الكافي لكي تحسب بالضبط كم من المال تدين للآخرين. وكان المقرضون يشكون بأن دبي تحاول تغطية حجم مشاكلها المالية. يقول السيد الشيباني انه لا توجد خديعة من ناحية دبي، وكل ما في الأمر هو أن المدينة ببساطة لم تكن قادرة على عمل ما هو ضروري للإبقاء على مستوى نموها.
وهو يقول: «بعض البنوك كانت قلقة من أننا لم نكن نشاركها في المعلومات، ولكن الحقيقة هي أننا لم نكن نملك معلومات لكي نشارك بها».
ولكن وبعد أن قامت جارتها الإماراتية الغنية بالنفط والقريبة منها، أبو ظبي، بضخ 10 مليارات دولار من النقد، وبعد سنة من المفاوضات الشاقة مع الدائنين، وافقت دبي العالمية، الشركة القابضة التي تدير أغلب حقائب استثمارات حكومة دبي، في شهر (نوفمبر) من عام 2010، على إعادة هيكلة ما قيمته 23.5 مليار دولار من المستحقات.
ومنذ ذلك الحين استعادت دبي وضعها الطبيعي وانتعشت بشكل عجيب. ففي شهر (أكتوبر) كان المؤشر العام لسوق دبي المالي أعلى بثلاث مرات مما كان عليه وهو في أدنى مستوياته في عام 2009، وقد جعلها هذا خلال تلك الفترة من بين أفضل عشرة أسواق من حيث أداء الأسهم في العالم، وذلك حسب بيانات جمعتها وكالة بلومبيرج الإخبارية.
نمو مستدام
ارتفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4.6 في المائة في عام 2013، وتتوقع الحكومة أن يزيد ذلك على 5 في المائة في هذه السنة. ومع أن هذا هو نصف ما كان عليه قبل الأزمة المالية العالمية، إلا أن ماريوس ماراثيفتيس الرئيس الدولي لمركز أبحاث ماركو في بنك ستاندارد تشارترد في دبي يقول إن هذه الوتيرة من النمو قابلة للاستدامة.
وهو يقول: «نفضل كثيراً أن نرى نسبة نمو 4 أو 5 في المائة أكثر من رؤية نسبة 8 في المائة».
كان المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي في دبي قبل الأزمة المالية هو المضاربة بالعقارات التي أشعلتها القروض البنكية. أما اليوم فيقول ماراثيفتيس فإن قطاع الضيافة والفنادق، وتجارة التجزئة، والأعمال اللوجستية هي من يقف وراء ذلك.
دبي استفادت من كوارث جيرانها
يقول باريك لورد، مدير الشرق الأوسط في مجموعة إدارة المخاطر القابضة المحدودة في دبي، وهي شركة استشارات تتعلق بالمخاطر السياسية والاقتصادية: «الليبيون والسوريون والمصريون والإيرانيون، أصبحوا كلهم هنا، وأصبحت دبي المكان الذي يمكن أن تأتي إليه بأموالك، إن لم يكن بالإمكان وجودك هنا شخصياً».
ومع ذلك، أصبحت مشاركة الإمارات العربية المتحدة في الضربات الجوية التي تقودها الولايات المتحدة على معاقل داعش في سوريا والعراق تشكل خطراً على وضع دبي كملجأ آمن.
يقول كريستوفر ديفيدسون عن الإمارات العربية المتحدة، وهو الباحث في جامعة ديرهام في المملكة المتحدة، والمتخصص في شؤون دول الخليج: «لم يعودوا مؤثرين محايدين، ولكنهم بدلاً من ذلك أصبحوا دولة مواجهة في حرب يمكن أن تعم المنطقة بأكملها». وهو يقول، ومع ذلك نموذج دبي الاقتصادي ليس عرضة لخطر مباشر.
ولكن بدأت دبي، وهي توجه أنظارها للغرب، تتطلع للربح من النجاحات التي حققتها إفريقيا، فقد بدأت اقتصادات كانت يوماً مريضة وضعيفة من غانا إلى أنجولا إلى كينيا بتحقيق نمو وصل إلى 5 في المائة أو أكثر منذ عام 2009، ومنذ ذلك الحين بدأت أعداد متزايدة من الشركات الأوروبية والأمريكية والآسيوية بوضع مراكزها الرئيسية الإفريقية في دبي.
يقول فادي غندور، المؤسس المشارك ونائب رئيس شركة أرامكس: «لم يعد بإمكانك إدارة أعمالك في إفريقيا من لندن أو إفريقيا الفرنسية من باريس كما كانت الحال في الأيام الماضية، اليوم أصبح لهذه المدن منافس، إنه موجود هنا في دبي». يشار إلى أن أرامكس هي شركة اللوجستيات والنقل التي تتخذ من دبي مركزاً لها وتحقق إيرادات سنوية بحدود مليار دولار، والآن أصبحت تتوسع في إفريقيا.
كان أحد أسباب ذلك هو ميناء جبل علي، واتصالات دبي الجوية هي سبب آخر. يقود هذه الاتصالات شركة خطوط الإماراتية المملوكة للدولة، وهي التي بدأت بطائرتين من نوع بوينج 727 في عام 1985 والآن تطير إلى 140 وجهة حول العالم، منها 24 مدينة إفريقية.
وفي الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2014، تخطى مطار دبي العالمي مطار هيثرو في لندن، بالتعامل مع 18 مليون مسافر، مقارنة بمطار هيثرو الذي تعامل مع 16 مليون مسافر.
وحالياً يجري بناء مطار جديد، وهو مطار آل مكتوم الدولي المركزي الذي تبلغ كلفته 80 مليار دولار، والذي ستكون له خمسة مدارج وله القدرة على التعامل مع 160 مليون راكب سنوياً عندما يتم بناؤه في وقت ما بين عامي 2020 و2030.
يقول غندور إن دبي هي المدينة الوحيدة في الشرق الأوسط التي أصبحت «شبيهة بالجهاز الذي يعمل دون وصله بالكمبيوتر». وقد ولد غندور في بيروت ونشأ في الأردن وهو الآن يقسم وقته بين عمان ودبي التي بدأ يزورها بانتظام منذ أوائل الثمانينيات.
ويقول غندور إن دبي كانت قاعدة رائعة، ليس فقط لشركة أرامكس- التي أصبحت أول شركة عربية تسجل أسهمها للتداول في سوق ناسداك في عام 1997- ولكنها أيضاً بالنسبة للرغبة القوية الحالية التي تتملك غندور ليكون المستثمر الذي يوفر الدعم المالي لشركات التكنولوجيا الناشئة في أنحاء العالم العربي.
وهو يقول إن هذه المدينة تقدم للشركات العالمية اندماجاً سهلاً وتحرراً من الضرائب ونظام تأشيرات صديقا للأعمال وبنية تحتية ناجحة.
ونمط الحياة في دبي يجذب الكثير من العاملين الأجانب، فهي تحتوي على الشواطئ ونوادي الغولف والمدارس الدولية ونسبة جرائم قليلة وإسكانات حديثة، إضافة إلى توافر مربيات الأطفال ذوات الكلفة القليلة والسائقين والطباخين وعمال النظافة. ويستطيع القادمون من دول حيث تجبى الضرائب في أماكن إقامتهم مثل المملكة المتحدة أن يعيشوا في النهاية دون دفع ضرائب.
وقد انتقدت منظمة هيومان رايتس ووتش في تقرير لها أصدرته في شهر (أكتوبر) دبي بسبب عدم فعلها ما يكفي لإصلاح النظام الذي مكن من «العمالة الإلزامية» بين المهاجرين، خاصة الإناث العاملات في المنازل. ويشكل المهاجرون، وأغلبهم جاء من شبه القارة الهندية وإفريقيا والفليبين نسبة 90 في المائة من المقيمين في دولة الإمارات العربية المتحدة الذين يبلغ عددهم 9.3 مليون شخص. كما تعمل القيود المفروضة على التأشيرة على ربط المهاجرين بمستخدميهم.
واستجابة لهذا التقرير، قالت آمنة المهيري، مديرة دائرة حقوق الإنسان في وزارة خارجية الإمارات العربية المتحدة، إن هذا التقرير استمد من استنتاجات شاملة اعتمدت على عينة صغيرة غير ممثلة للواقع. وقالت أيضاً إن الإمارات العربية المتحدة ملزمة بتقوية حماية العمال الأجانب بصورة مستمرة، ومنهم الخادمات في المنازل باعتبارها أولوية وطنية.
الجغرافيا هي القدر والمصير
قال جيفري سينجر، كبير المدراء التنفيذيين السابق في هيئة مركز دبي المالي العالمي، في مقابلة أجريت معه في شهر (مايو): «تقع دبي في موقع يسهل الوصول إليه من ثلاث مناطق- هي الخليج وشبه القارة الهندية وإفريقيا- ولكل منها اقتصاد سنوي يبلغ حجمه 2 تريليون دولار».
ومنذ عام 2004، أدارت هيئة مركز دبي المالي العالمي منطقة إدارة خاصة أصبحت الآن تتباهى باحتوائها على أكثر من 1100 شركة، منها مكاتب تمثيل إقليمية للكثير من البنوك العالمية الكبيرة والمؤسسات القانونية وشركات التأمين ومدراء الأصول المالية وغيرها. وقال سينجر إن المنطقة الخاصة تستطيع تقديم إطار عمل قانوني جذاب للأعمال.
حتى الآن، يبدو أن استراتيجية «إذا قمتَ ببنائه، فإنهم سوف يأتون»، ناجحة. فالمدينة مليئة بالسياح. وعدد الناس الذين يزورون دبي مول كل سنة يزيد على إجمالي عدد زوار شلالات نياجارا وبرج أيفل وديزني ويرلد مجتمعين. يتباهى المطار بأنه يشتمل على أكبر مبنى للمسافرين في العالم. وفي جبل علي، تعمل الرافعات وتحوم على مدار الساعة، وفي نافورة دبي، تظل الموسيقى تصدح دون انقطاع.