كم من مرة قرأت فيها عبارة «فضلاً لا تطرق الباب» في المستشفيات أوغيرها؟ دائماً هناك من يطلب منك ألا تستعجل الأمور، وألا تقتحم أوقات الناس ومصالحهم بحجة بالغة الإنانية؛ بأنك أولى من كل من يشاركونك الهدف نفسه والحاجة نفسها. استوقفتني تلك العبارة يوماً وأنا أرى أحدهم يصر على طرق باب العيادة مرة بعد مرة مع علمه الأكيد بوجود مريض هو بحاجة إلى الطبيب مثله تماماً وربما أكثر، وأخذني الحدث إلى مواقع أخرى وتفاصيل مختلفة في حياة كل منا ليس في تعاملنا مع الناس ولكن حتى في تعاملنا مع أقدارنا؛ إذ يختلط علينا الأمر بين ما نتحكم به ونواجهه بقوانا الخاصة وقدراتنا الاحتمالية التي نعتقد أنها ستكون سبب الانتصار على كل معضلة نواجهها، وبين قدراتنا التي نتجاهلها ونستعين بها على الاستسلام برضا لمجريات بعض الأمور في حياتنا. تقول «اليف شافاق» في روايتها قواعد العشق الأربعون: «يخطئ البعض عندما يخلطون بين (الإذعان) و (الضعف) فالإذعان شكل من أشكال القبول السلمي بشروط الكون، ومن بينها الأمور التي لا نستطيع تغييرها أو فهمها حالياً) بكلمات معدودة أشارت المؤلفة إلى سبب معاناة كثير من البشر الذين يشعرون بالهزيمة ويتوجعون من اشكالات لا حد ولا حصر لها، وليس ذلك على المستوى الشخصي أو المادي تحديداً. بل على كل المستويات في حياتهم بما هو مهم وما هو ليس كذلك، تلك المعاناة الناتجة عن خوفنا من الإذعان لأننا نترجمه ضعفاً فيخيفنا أن نرى أنفسنا في حالة ضعف، فنتجبر وندعي الصمود والإصرار والمثابرة على تحقيق ما نريده حتى مع معرفتنا التامة بأن هذا الأمر أو ذاك خارج عن حدود سيطرتنا! ولكن العجيب أننا نعد أنفسنا للإذعان والاستسلام بعبارات دينية تعلمنا منها أن نرضى بما حدث وبالتالي نستسلم ونذعن فنردد: لا حول ولا قوة الا بالله، ونقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولكن هذا الضعف أمام رب العباد غالباً ما يكون لسانياً فقط! لأننا لم نجد من يعلمنا أن الاستسلام في بعض حالاته قوة لا يحسنها الجميع لأنهم لم يتعلموا الدرس بعد، ودروس الحياة كثيرة، ولم يتنبهوا إلى أن مفهوم الضعف البشري أمام عظمة الخالق الظاهر في مثل تلك العبارات يجب أن يكون عميقاً جداً جداً حتى تذعن عن قناعة وقوة عقلية وقلبية، لا عن استسلام لساني ظاهري فقط. خذ على سبيل المثال عندما يتوفى شخص ما من أقارب الدرجة الأولى للمرء، سترى أن من كانوا يرونه كل حياتهم يبدون وكأنهم قد نسوه منذ أول لحظة لبعده عنهم!! ولكن في حقيقة الأمر هذا استسلام ظاهري سرعان ما ينكشف حين تظهر علامات الحزن الفعلية على حياتهم بعد ذلك المتوفى، فبعضهم لا يكاد يحسن الحياة بعد الفقد وبعضهم يكون الفقد - رغم الألم الذي استشعروه في بداية الأمر- نافذة جديدة لحياة مختلفة قد تؤثر على كثير من السمات الشخصية للفاقد!! وبعضهم يسبب له مثل ذلك الحدث انتكاسة كبرى في حياته قد تكون مساوئها أكثر من حسناتها. في أشد المواقف الإنسانية إيلاماً تتجلى معاني الإذعان بإيمان، أو الضعف بانقياد، أو التمرد على الحدث في محاولة لمعالجته أو استبداله بآخر. وفي مثل تلك المواقف تخدعنا المظاهر كثيراً فلا البكاء يشي بصدق ما يتلجلج في الأعماق، ولا الضحك يكشفها. وحال ذاك الذي يطرق الباب على الطبيب ليسابق الآخرين على حقهم لا يختلف كثيرا عن دور الندابة التي تبكي من لا تعرف بحرقة وألم وتستبكي الحضور على المفقود الغالي في حين أنها ربما سألت عن اسمه قبل أن تشق عليه الجيب!! إنها في مشاركة ظاهرية جوفاء بعيدة عن هذا وذاك، غير أنها تعيننا على تبصر بعض الأمور حين نغوص في عمق المفردات التي نتلفظ بها فيتبع ذلك عمق في الإيمان والسلوك.
* عضو هيئة التدريس بجامعة الدمام